مدى جواز القول بالإلغاء الضمني في التشريع الجنائي

6 مايو 2020
مدى جواز القول بالإلغاء الضمني في التشريع الجنائي

مدى جواز القول بالإلغاء الضمني في التشريع الجنائي

الدكتور عبد الحكيم الحكماوي

أستاذ زائر بكلية الحقوق سلا
باحث قانوني

 

من المعلوم أن التشريع كائن حي كما يقال، ينشأ و يعيش و بعد ذلك يموت؛ وموت القاعدة التشريعية لا يتصور في المنطلق إلا بالإلغاء أو النسخ. ولذلك فالمشرع على اختلاف توجهاته و المدارس التي يتأثر بها يعمل على وضع قواعد منظمة لمؤسسة الإلغاء. والمشرع المغربي لم يكن حالة شاذة في هذا الميدان؛ إذ عمل على وضع قواعد تنظم أحكام الإلغاء سواء في التشريع المدني أو غيره من التشريعات.

وهكذا فإن الناظر في موقف المشرع سيجد أنه سلك مسلكين أولهما أنه تعرض لفكرة إلغاء التشريع في الفصل 474 من ظهير الالتزامات والعقود  سواء ما تعلق بالإلغاء الضمني أو الصريح، وأما الثاني فيتمثل في سكوته عن فكرة الإلغاء   الضمني خصوصا لا نجد لها ذكر في المقتضيات التشريعية الجنائية.  وقد كان لهذا السكوت تأثير مباشر على التمثل السليم للقاعدة التشريعية الجنائية في مجموعة من الخطوات التشريعية ذات الطابع الجنائي وكذا على العديد من الآراء “الفقهية القانونية” وفي الكثير من الأحكام والقرارات القضائية  على السواء.

و لموضوع الإلغاء الضمني للتشريع الجنائي أهمية كبرى خاصة على مستوى تنزيل الأحكام التشريعية الجنائية، ذلك فإن أي تزحزح في الفهم عن المنطق السليم من شأنه أن يعصف بحقوق الأفراد، ولذلك فقد ارتأينا الحديث باقتضاب عن مفهوم الإلغاء الضمني للتشريع الجنائي إيمانا منا بأن القاعدة التشريعية الجنائية لها خصوصية عن باقي القواعد التشريعية الأخرى، و أن تلك الخصوصية تلازمها في كل مظاهرها، ولا يجوز إلحاقها بباقي أنواع القواعد التشريعية.

إن الإشكال المطروح في هذا الموضوع يتجسد في النظر في مدى إمكانية استيعاب قواعد التشريع الجنائي لفكرة الإلغاء الضمني ، خاصة و أن سياسة التجريم والعقاب مبنية على قاعدة كونية تتمثل في مبدأ ” النصية ” أو قاعدة ” لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص” وهي القاعدة المصطلح عليها بمبدأ الشرعية؟

وما يرتبط بهذا الإشكال أمور عدة منها؛

  • أن إضفاء الصفة الجرمية على فعل ما يستوجب بالضرورة تدخلا تشريعيا صريحا من المشرع تطبيقا لمبدإ الشرعية واجتنابا للتدخل القضائي غير المأمون في هذا الجانب،
  • أن اختصاص المشرع بسلطة التجريم تجعل منه صاحب الاختصاص في مجال إباحة الأفعال التي سبق تجريمها متى ثبتت العلة للإباحة،
  • أن تجريم فعل ما يقتضي تدخلا صريحا من المشرع وفي نفس درجة قوة تدخله عند التجريم،

لذلك كان لابد من التساؤل حول ما إذا كان من اللائق أن يلوذ المشرع الجنائي بالصمت في معرض إباحة فعل معين سبق تجريمه تعبيرا أم أن رفع الصفة الجرمية يجب أن يتأكد بنفس الصورة التي اعتمدت عند التجريم؟

إن الفرضية التي يمكن الانطلاق منها هي أن المشرع الجنائي ليس كباقي المشرعين؛ فبحكم اشتغاله في مجال متصل بحقل الحقوق والحريات فإنه يمتلك من السلطات الاستثنائية ما يؤهله لتقدير مدى خطورة فعل ما وما يمكن أن يشكله ذلك الفعل من تهديد للمصالح الاجتماعية العليا للمجتمع. لذلك فإن مجال اختصاصه متصل اتصالا وثيقا ومباشرا بالنظام العام الذي لا يمكن أن تتدخل فيه إرادة أي طرف ولو كان القضاء نفسه. وما يترتب عن هذا الدور أن سلطة التشريع الجنائي تحمل معنيين أحدهما هو إخراج الأفعال من أصلها إلى دائرة الإباحة وثانيهما إعادة هذه الأفعال إلى أصلها السابق. وكنتيجة لذلك فإن المشرع سيبقى مستقلا بلعب دوره كاملا في التجريم والإباحة وهو الأمر المنافي لإمكانية ترك هامش ولو يسير لجهة أخرى غير المشرع لممارسة هذا الدور؛ مما يجعلنا ننطلق من فرضية واضحة وهي أن فكرة الإلغاء الضمني التي تتضمن معنى تدخل القضاء في البحث عما إذا كان التشريع الجديد قد ألغى أو نسخ التشريع القديم فكرة لا تستند على أساس تشريعي لما لهذا التدخل من إمكانية لإحداث نوع من اللاتوازن بين مراكز الأفراد إزاء التشريع الجنائي.

وللوقوف على مدى صحة هذه الفرضية نرى أن نتطرق للموضوع من خلال إشكالين فرعيين اثنين، الأول مدى إمكانية تضمن التشريع الجنائي لما يُسوِّغ لفكرة الإلغاء الضمني؛ بينما الثاني يتعلق بنطاق التأثير الذي يجسده تمثل فكرة الإلغاء الضمني على السياسة الجنائية بشقيها التشريعي والقضائي.

وعلى ذلك فإننا نقترح أن نعالج هذا الموضوع وفق الخطة التالية:

المبحث الأول: الإطار النظري لفكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي

المطلب الأول: ارتباط فكرة الإلغاء الضمني للقاعدة الجنائية بمبدأ الشرعية

المطلب الثاني: ارتباط فكرة الإلغاء الضمني للقاعدة الجنائية بقاعدة سريان التشريع الجنائي في الزمان

المبحث الثاني: تأثير تمثل فكرة الإلغاء الضمني على السياسة التشريعية و القضائية في الميدان الجنائي

المطلب الأول: اضطراب السياسة التشريعية بشأن فكرة الإلغاء في التشريع الجنائي

المطلب الثاني: تقييم موقف القضاء من فكرة الإلغاء الضمني للتشريع الجنائي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المبحث الأول

 الإطار النظري لفكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي

يُعرِّف الفقه الإلغاء بكونه إزالة قاعدة تشريعية كانت سارية المفعول في زمن معين وإحلال قاعدة تشريعية محلها تنظم نفس الموضوع الذي كانت تنظمه القاعدة السابقة، و قد استقر الفقه على هذا التعريف استقرارا جعل المشرع يأخذ بذات المفهوم وهو بصدد تنظيم فكرة الإلغاء كقاعدة تشريعية. إلا أن للفكرة حدودا لابد من الانتباه لها خاصة متى تعلق الأمر بالتشريع الجنائي الذي يعتبر استثناء من القواعد التشريعية الجاري بها العمل لارتباطه بحقل حريات وحقوق الأفراد والجماعات.

و هكذا فلما كانت القاعدة التشريعية الجنائية تنظم مواضيع لها ارتباط بالأمن والسلم الاجتماعيين، فإن هذه القواعد يجب أن تتصف بمميزات تميزها عن غيرها من باقي القواعد التشريعية غير الجنائية. و من تلك المميزات أن القاعدة التشريعية الجنائية يحكمها مبدأ ” الشرعية ” وهو المبدأ الذي يجسد إرادة المشرع على أرض الواقع والذي بموجبه لا يمكن أن يدرج أي فعل في خانة التجريم إلا بعد التنصيص عليه بنص قانوني استنادا لمبدإ ” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ”

وكما هو معروف فإن مبدأ الشرعية يتصل اتصالا وثيقا بالقواعد العامة  أو الخاصة المتعلقة بالتشريع الجنائي عموما بما في ذلك القواعد المنظمة لفكرة إلغاء التشريع الجنائي، ولذلك فإن ضرورة البحث تدعونا إلى التساؤل حول مدى ارتباط فكرة الإلغاء الضمني ببعض المبادئ العامة للتشريع الجنائي وعلى رأسها مبدأ الشرعية (المطلب الأول) من غير إهمال للبحث في ما تعلق ذات الفكرة بقاعدة سريان التشريع الجنائي في الزمان (المطلب الثاني) .

المطلب الأول

ارتباط فكرة الإلغاء الضمني للقاعدة الجنائية بمبدأ الشرعية

من المسلم به أن مجموعة من القواعد التشريعية الجنائية محكومة بقواعد عامة أدرجها المشرع مفرزة في مجموعة التشريع الجنائي عنونها ب ” مبادئ عامة” وشملت الفصول من 1 إلى 12 من نفس التشريع.

وهذه القواعد لا تنطبق على أحكام التشريع الجنائي بمفهومه الضيق فحسب وإنما تتعداها لتشمل مجموع القواعد التشريعية الجنائية سواء تلك التي أدرجت بمجموعة القانون الجنائي أو بالنصوص التشريعية الجنائية الخاصة؛ على اعتبار أن الطبيعة القانونية للمبادئ العامة المذكورة تتمثل في كونها الجسر الحاكم لمنظومة التشريع الجنائي بمفهومه الواسع، والحاكم لعلاقات المقتضيات الواردة بمجموعة القانون الجنائي الصادر سنة 1962 وما لحق به من تعديلات وتغييرات بتلك التي تتضمنها التشريعات الجنائية الخاصة.

و من القواعد التي تضمنها القانون الجنائي في المبادئ العامة ما ورد بالفصل الثالث من مجموعة التشريع الجنائي الذي جاء فيه أنه: ” لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح التشريع ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها التشريع” و كذا ما ورد بالفصل السادس من نفس القانون الذي نص على أنه: ” في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعول، بين تاريخ ارتكاب الجريمة والحكم النهائي بشأنها، يتعين تطبيق التشريع الأصلح للمتهم”. و كما هو مفهوم من منطوق الفصلين أن الأول يلخص مضمون مبدأ الشرعية بينما الثاني يتطرق لفكرة سريان القواعد التشريعية الجنائية في الزمان، ولذلك فقد ارتأينا النظر في فكرة الإلغاء الضمني للقاعدة الجنائية على ضوء فكرتي النصية والسريان في الزمان .

معلوم أن مبدأ الشرعية يعتبر المؤسسة الأقوى في أي تشريع جنائي وفي كل المنظومات التشريعية الجنائية، وهو بذلك يؤسس سواء للقواعد المنظمة للجرائم والعقوبات المقررة لها أو للقواعد التي تحكم التشريع الجنائي عموما .

ولذلك فإن المشرع لم يكن ليهمل قاعدة مهمة، مثل قاعدة الإلغاء في التشريع الجنائي، ولعله الدافع الذي جعل المشرع ينص على مقتضيات الفصل 6 من مجموعة التشريع الجنائي المغربي، تلك المقتضيات التي أفاض الفقه في تفسيرها وتدريسها لطلبة القانون؛ إلا أن تلك الإفاضة في نظرنا تبقى عاجزة عن فهم كنه وجوهر تلك القاعدة التشريعية.

وعلى ذلك فأي تحوير لمضمون تلك القاعدة التشريعية إنما هو تحوير لجوهر القواعد المؤسسة لفكرة النصية في التشريع الجنائي.

تذهب التفسيرات الفقهية إلى اعتبار القاعدة الواردة بالفصل 6 من القانون متعلقة بالفعل موضوع التجريم، معتبرة أن المقصود من القوانين السارية بين تاريخ ارتكاب الفعل الجرمي وتاريخ صدور حكم نهائي بشأنه مجموع القواعد التشريعية التي تتوالى في الزمان بين تاريخ ارتكاب الفعل الجرمي وتاريخ صدور حكم نهائي بشأنه متى كانت منظمة لموضوع واحد. وهذا التوجه في التفسير لامحالة سيحصر من آثار ما ورد بالفصل السادس من القانون الجنائي إذ سيجعل من فكرة توالي التشريعات الجنائية فكرة مؤسسة لفكرة الإلغاء الضمني  وسيجعل هذه الأخيرة مستساغة؛ على اعتبار أن مؤدى هذا التفسير الفقهي يقوم على أن كل قانون جنائي كان في وقت معين يجرم فعلا معينا لابد من التخلي عن العمل به بمجرد صدور قانون جديد ينظم نفس الفعل. وبالتالي فإما أن يرجع الفعل المجرم سابقا فعلا مباحا أو فعلا منظما بمقتضى التشريع الجديد لا غير، شريطة أن يكون التوالي في صدور تلك القوانين محصورا في الزمان بين تاريخ ارتكاب الفعل المجرم وتاريخ صدور الحكم النهائي بشأنه.

ولعل الانتقاد الموجه للمقاربة الفقهية له عدة أسباب منها:

الانتقاد الأول: أهمها؛ أن مقتضيات الفصل السادس من القانون الجنائي لا تتعلق بالتجريم ذاته، أي بإخراج فعل ما من دائرة الإباحة لدائرة التجريم وإنما تتعلق بالعقوبة فقط. ففكرة القانون الأصلح للمتهم فكرة تتركز على أمرين وحدة الوصف القانوني وتعدد العقوبات. وعلى مستوى تعدد العقوبات نجد موطأ القدم للقاعدة الواردة في الفصل المذكور. إذ لامعنى لاستفادة المتهم من القانون الجديد إذا كان هذا الأخير يهدف إلى إعادة النظر في الوصف القانوني للفعل سواء بالتغيير من كونه بدل أن يعتبر جريمة “أ” سيعتبر جريمة “ب”، أو بإلغاء الصفة الجرمية عنه من الأساس وإعادته لأصله المباح. إذ في الحالة الأولى سنكون أمام إعادة توصيف الفعل المجرم توصيفا قانونيا جديدا بما يترتب عن ذلك من تحديد العقوبة المناسبة لهذا الوصف، بينما في الحالة الثانية سنتحدث عن الإباحة الصريحة بصدور القانون الجديد. وعلى ذلك فإن مفهوم “القانون الأصلح للمتهم” لا علاقة له بالتجريم وإنما يرتبط بالعقاب الذي يمكن أن يشهد نوعا من الاختلاف على مستوى القوانين التي تصدر بين تاريخ ارتكاب الجريمة وتاريخ صدور الحكم النهائي بشأنها.

الانتقاد الثاني: أن مقتضيات الفصل السادس من القانون الجنائي يتضمن فرضية وجود قانونين أو أكثر ينظمون نفس الجريمة، بمعنى أن للفعل الواحد عدة مقتضيات جنائية تنظمه، وقد يتصور ذلك في حالة وحدة الوصف القانوني وتعدد العقوبات كما ذكرنا سابقا، كما قد يتصور في حالة وحدة التجريم واختلاف العقاب مع اختلاف الجهات القضائية المختصة.

الانتقاد الثالث: عدم اشتمال التشريع الجنائي لأية قاعدة تقر بفكرة الإلغاء الضمني كما تقضي بذلك مقتضيات الفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود. مما يبعث على التساؤل حول مدى إمكانية التشبث بالقول المتعارف عليه بكون القانون المدني هو الشريعة العامة وبالتالي فإن ما يتضمنه من قواعد وأحكام يمكن الرجوع إليها عند الحاجة. إن فكرة استقلال التشريع الجنائي عن التشريع المدني تنبني على استقلال الفلسفتين اللتين يتأسس كل واحد منها عليها. ولهذا الاستقلال القائم بين التشريع المدني والتشريع الجنائي شواهد عدة من التشريع ذاته منها تنظيم قانون الالتزامات والعقود لفكرة الدفاع الشرعي في نفس الوقت الذي ينظمها فيه التشريع الجنائي، وغيرها من الأمثلة. كما أن المشرع لم ينص في صلب التشريعات الجنائية على أي مقتضى يبيح للقضاء أو الفقه للاستعانة بمقتضيات التشريع المدني في حالة النقص، مما يدل على أن المشرع الجنائي ينطلق وينتهي من فكرة استقلال التشريع الجنائي عن التشريع المدني. مما يترتب عن كل ذلك أن عدم ورود مقتضى مماثل لما ورد في الفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود في القانون الجنائي مؤشر واضح على أن المشرع الجنائي يتبنى فكرة امتلاك سلطة الحظر والإباحة بعد الحظر ويختص بهذه السلطة دون غيره.

و نرى أن ما ذهب إليه المشرع يستقيم والمنطق السليم كما ينسجم مع مبدأ الشرعية؛ إذ أنه إذا كان من المتفق عليه أن الأفعال لا تخرج من دائرة الإباحة إلى دائرة التجريم إلا بوجود قاعدة تشريعية تقضي بذلك، فإن إعادتها لدائرة الإباحة يتعين أن تخضع من حيث المبدأ لنفس المسار يتمثل في ضرورة صدور نص صريح يقضي برفع الصفة الإجرامية عن الفعل المجرم أو بتغيير عقوبته مع إلغاء النص القديم تجريما وعقوبة.

فبالرجوع مثلا لمجموعة القانون الجنائي نجد أن المشرع عمل على الإلغاء الصريح للفصول من 19 إلى 23 من التشريع الجنائي وذلك وفق ما نصت عليه مقتضيات المادة 756 من قانون المسطرة الجنائية؛ بينما لم ينهج نفس النهج بالنسبة لمجموعة من الجرائم التي يعتبرها الفقه والقضاء في بعض اتجاهاته ملغاة، كما هو الأمر بالنسبة للجرائم المنصوص عليها في الفصلين 543 و544 من القانون الجنائي والتي تعتبر وفق الفهم السائد أنها ملغية بصورة ضمنة وفق ما جاء بمقتضيات الفصل 316 من مدونة التجارة، كما أنه لا مبرر للقول بفكرة الإلغاء الضمني عندما يتم الحديث عن مقتضيات الفصل 468 من القانون الجنائي بالرغم من صدور قانون الحالة المدنية الذي يعاقب بموجب المادة 31 منه الأب الذي يتخلف عن تسجيل ابنه بسجلات الحالة المدنية داخل الأجل القانوني، بل لم يكتف المشرع بالحالتين المذكورتين وإنما اعتمد نفس السياسة بمناسبة إعادة تنظيم جريمة التفالس في مدونة التجارة؛ والأمثلة على ذلك كثيرة .

إن الإبقاء على النصوص التشريعية القديمة وعدم الإقدام على إلغائها بصورة صريحة يجسد الصورة الحقيقية والسليمة لمقتضيات الفصل السادس من القانون الجنائي، مادام أن جوهر فكرة الإلغاء القائمة على ورود عدة أحكام متناقضة على ذات الموضوع ورودا يستحيل معه الجمع بيها لم تتحقق في الفصول المذكورة في الأمثلة أعلاه. إذ بالرجوع إلى المقتضيات المذكورة وإعادة قراءتها قراءة جيدة سنجد أن المشرع إلى أنه لم ينظم ذات الفعل في المقتضيات المختلفة بنفس التنظيم وبالتالي اعتبر الأفعال التي تنطبق عليها أحكام الفصول المذكورة مكونة من عناصر وأركان مختلفة أو اعتبر تحققها من حيث الزمان مختلف باختلاف الجرائم أو نوَّع في دائرة المخَاطبين بخطاب التشريع والملزمين بتطبيقه من الأفراد.

ولتوضيح ما ذكرناه أعلاه نأخذ بعض صور جرائم الشيك كمثال. إذ بالرجوع إلى الفصل 543 من القانون الجنائي نجد أن المشرع ينص على جريمة إصدار شيك بدون رصيد بسوء نية، بينما في المادة 316 من مدونة التجارة نجده يتحدث عن جريمة مخالفة تماما ألا وهي جريمة عدم توفير مؤونة شيك عند تقديمه للأداء .

و بالتفصيل في الأركان التكوينية لكل جريمة على حدة نجد أن المشرع فعلا قصد عدم إلغاء مقتضيات الفصل 543 من التشريع الجنائي لأنها لا تتعلق بنفس الجريمة المنصوص عليها بالمادة 316 من مدونة التجارة للاعتبارات التالية:

الاعتبار الأول: أن زمن تحقق الجريمتين مختلف، فالجريمة المنصوص عليها في الفصل 543 من القانون الجنائي تتحقق بمجرد إصدار الشيك مع توفر شرط سوء النية بينما جريمة المادة 316 لا تتحقق إلا عند التقديم أمام المؤسسة البنكي التي تتأكد من انعدام المؤونة من غير اعتبار لنية الساحب لافتراض صورة الإغفال.

الاعتبار الثاني: أن جريمة عدم توفير مؤونة شيك عند تقديمه للأداء المنصوص عليها في المادة 316 من مدونة التجارة قد تتحقق بمجرد تحقق انعدام المؤونة من غير التفات لنية الساحب فهي بذلك جريمة شكلية في بعض صورها بينما الجريمة المنصوص عليها في الفصل 543 من التشريع الجنائي جريمة عمدية لارتباطها بعنصر سوء النية زمن الإصدار.

الاعتبار الثالث: أن عدم تفعيل مقتضيات الفصل 543 من القانون الجنائي يرجع بالأساس إلى صعوبة إثبات انعدام توفر المؤونة زمن الإصدار مع صعوبة إثبات سوء النية، بينما مختلف تماما بالنسبة  لجريمة عدم توفير مؤونة شيك عند تقديمه للأداء .

فمن خلال ما سبق يمكن الوقوف على الفروق الجوهرية التي تطبع كل واحدة من الجريمتين مما يستحيل معه الجرم بالقول بفكرة الإلغاء الضمني في جرائم الشيك.

وبمناسبة الحديث عن الجرائم المتعلقة بالشيك؛  فقد نص الفصل 544 من التشريع الجنائي على جريمتين اثنتين الأولى تتعلق بتسلم شيك على سبيل الضمان بينما الثانية تتجسد في إصدار شيك على سبيل الضمان. وكما هو معلوم فإن المشرع في معرض تنظيمه لمقتضيات المادة 316 من مدونة التجارة تحدث عن جريمة تسلم شيك على سبيل الضمان غير أنه لم يتطرق لجريمة إصدار شيك على سبيل الضمان وإزاء هذا الموقف انقسم الرأي بين مؤيد ومعارض لفكرة إلغاء جريمة إصدار شيك على سبيل الضمان، فأي الاتجاهين أصوب؟

بالرجوع لمقتضيات الفصل السادس من القانون الجنائي سنجد أن المشرع أقر قاعدة سريان عدة قوانين منظمة لنفس الفعل الجرمي، فهل ينطبق ذلك على ما في الفصل 544 من القانون الجنائي وما في المادة 316 من مدونة التجارة؟ هذا التساؤل يجعلنا نميز بين جريمتين الأولى وهي جريمة تسلم شيك على سبيل الضمان التي نظم المشرع أحكامها في كل من الفصل 544 والمادة 316، وبذلك يمكن إعمال المبدأ الوارد بالفصل السادس من القانوني الجنائي ما دام أن العقوبة المقررة في كل من المقتضى الوارد في القانون الجنائي مختلفة عن تلك الواردة في مدونة التجارة فيكون بذلك مبدأ تمتيع المتهم بالقانون الأصلح له مبدأ مؤسسا.

بينما الأمر مختلف تماما عندما يتعلق بجريمة إصدار شيك على سبيل الضمان؛ ففي الوقت الذي عمل المشرع على تنظيم هذه الجريمة بمقتضى الفصل 544 من القانون الجنائي لم يتم التطرق لها بمناسبة تنظيم أحكام المادة 316 من مدونة التجارة فهل هذا يعني أن المشرع ألغى ضمنيا هذه الجريمة؟

إن القول بفكرة الإلغاء الضمني لجريمة إصدار شيك على سبيل الضمان غير مؤسس لاعتبارات عدة منها :

أولا: أن مجرد السكوت لا يعتبر إلغاءا، ذلك أن الإلغاء لا يتحقق إلا بوجود قانونيين يتحدثان عن نفس الفعل بشكل يستحيل معه الجمع بين أحكامهما كما سبق وأشرنا إلى ذلك؛ وفي حالة جريمة إصدار شيك على سبيل الضمان لم يرد أي نص لاحق يتحدث عن نفس الجريمة وبالتالي يستحيل علينا إعمال الموازنة بين القانونين السابق واللاحق لانتفاء هذا الأخير وعدم وجوده أصلا.

ثانيا: أن المشرع لو أراد فعلا إلغاء جريمة إصدار شيك على سبيل الضمان لعمل على ذلك بصورة صريحة أو بواسطة مبدإ ينظم سريان آثار النسخ إما بناء على التكرار أو المخالفة كما فعل في المادة 316 من مدونة السير حينما قرر بموجبها إلغاء جميع المقتضيات القانونية التي تعتبر تكرارا أو مخالفة لما نصت عليه مدونة السير. ولما لم يورد المشرع مثل هذه القاعدة في مدونة التجارة – بالرغم من مقتضيات المادة 733 من نفس المدونة – مع الإبقاء على الفصل 544 في القانون الجنائي فإن جريمة إصدار شيك على سبيل الضمان تبقى قائمة لهذه العلة أيضا.

ثالثا: أنه بالرجوع لموقف المشرع الجنائي المعبر عنه في مسودة مشروع القانون الجنائي نجده – بالرغم من تذبذبه – قد عمل على نسخ مقتضيات الفصل 544 من القانون الجنائي صراحة بغض النظر عن المبرر الذي اعتمده كأساس لهذه النسخ، وعلى فرض إقرار ما جاء في هذه المسودة فإن جريمة إصدار شيك على سبيل الضمان ستنتفي من الوجود أصلا وتكون بذلك قد ألغيت بإرادة المشرع بصورة صريحة وليس بصورة ضمنية.

إن اقتصارنا للتمثيل على عدم جدوى القول بفكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي ببعض جرائم الشيك لا يعني أنه ليست هناك أمثلة أخرى فالتشريع الجنائي مليء بما يشهد بأن موقف المشرع ذاته لا يلتفت لفكرة الإلغاء الضمني ولا يعمل بها بل يتمسك بسلطته في التجريم والإباحة بعد التجريم تمسكا واضحا في العديد من المناسبات.

وخلاصة القول أن الحديث عن فكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي ستبقى من المسائل التي تمس بجوهر العدالة الجنائية، ذلك أن ترك تقدير مدى إلغاء أو عدم إلغاء الصفة الجرمية عن فعل ما بيد الفقه والقضاء والأطراف من خلال مرافعاتهم القضائية وسجالاتهم القانونية من غير الانتباه لدقائق التكييف الجنائي وسوء اعتبار القواعد والأحكام التي تقررها المقتضيات التشريعية الجنائية من شأن ذلك كله أن يمس بجوهر مبدإ الشرعية ويصيبه في الصميم. ويبقى التساؤل حول مدى ارتباط فكرة الإلغاء الضمني بقاعدة سريان القانون في الزمان، هذا ما سنجعله موضوع مقاربة من خلال المطلب الموالي.

 

المطلب الثاني

ارتباط فكرة الإلغاء الضمني للقاعدة الجنائية بقاعدة سريان التشريع الجنائي في الزمان

لقد أقر الفصل السادس من القانون الجنائي مبدأ تنظيم الفعل المجرم الواحد بقوانين متعددة سارية النفاذ في آن واحد. ذلك أننا نجده ينص على أنه في حالة وجود عدة قوانين سارية المفعول يطبق القانون الأصلح للمتهم.  ومؤدى هذا المقتضى أن امتداد سريان القوانين من حيث الزمان يشمل القوانين السابقة على ارتكاب الفعل الجرمي كما يشمل القوانين اللاحقة  عن ذلك الارتكاب. ذلك أنه ما لم يرد إلغاء صريح لقاعدة تشريعية جنائية ما فإنها ستبقى منتجة لآثارها وسارية في الزمان إلى حين تدخل المشرع لإلغائها.

وفي هذا الصدد سنضرب مثالا ببعض الأحكام المتعلقة بجرائم الشيك أيضا على اعتبار أنها الجرائم الأكثر تناولا. فبالرجوع لمقتضيات المادة 733 من مدونة التجارة نجد أنها نصت صراحة على إلغاء العديد من المقتضيات القانونية ومنها الظهير الشريف الصادر في 28 من ذي القعدة 1357 (19 يناير1939) الذي يتعلق تشريعا جديدا خاصا بالمدفوعات عن طريق الشيكات؛ فهنا يكمن التساؤل لماذا لم يتدخل المشرع لإلغاء قانون صدر سنة 1939 إلا سنة 1996 بالرغم من كون القانون الجنائي صدر سنة 1962؟ ألم يكن الأجدر بالمشرع أن يلغي ظهير 1939 بمناسبة إقرار القانون الجنائي؟ ثم ما سر وجود مقتضيات الفصلين 543 و544 من القانون الجنائي بالرغم من كونها تنظم نفس المواضيع التي وردت بالظهير الملغى بموجب مدونة التجارة ؟

هذه الأسئلة وغيرها يمكن أن تشكل أرضية لمناقشة مدى علاقة قاعدة الإلغاء الضمني بفكرة سريان القانون من حيث الزمان؛ ذلك أن الموقف الذي عبر عنه  المشرع في المادة 733 من مدونة التجارة بشأن القانون المتعلق بالمدفوعات عن طريق الشيك يعتبر دليلا واضحا على كون المشرع اعتبر ذلك القانون لا يزال ساري المفعول بالرغم من صدور القانون الجنائي سنة 1962. ولعل هذا الموقف يشكل دليلا آخر على كون القاعدة المنصوص عليها في الفصل السادس من القانون الجنائي إنما تقتصر على اتصالها بالعقوبة دون المساس بالصفة الجرمية ذاتها.

إن تأخر موقف المشرع المغربي بخصوص قانون 19 يناير 1939 – الذي كان ينظم جريمة إصدار شيك بدون رصيد بموجب الفصل 70 منه – كان مناسبة لتطبيق القانون الأصلح للمتهم بين ما نص عليه القانون المذكور وما نص عليه القانون الجنائي إلى حدود سنة 1996 تاريخ صدور مدونة التجارة عندما ألغي القانون المذكور بينما أُقرت الأحكام الواردة بهذه المدونة لاختيار القانون الأصلح للمتهم متى وجدت جرائم منصوص عليها في كلا التشريعين للذين بقيا ساريين. وهذا دليل إضافي على كون جرائم الشيك المنصوص عليها في كل من مدونة التجارة وفي قانون 1939 لم تعد منظمة بقانونين وإنما بقانون واحد نظرا من حيث علاقة أحكام المدونة بأحكام قانون 1939 نظرا لإلغاء هذا الأخير، لكن في نفس الوقت بقيت أحكام القانون الجنائي سارية المفعول ما دام ذات المشرع لم يعبر عن موقفه من جرائم الشيك الواردة بالقانون الجنائي تعبيرا صريحا كما فعل مع القانون المتعلق بالمدفوعات عن طريق الشيك.

من كل ذلك يتضح التسليم بفكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي لاتدع  مجالا للتسليم بفكرة تعدد القوانين الجنائية السارية النفاذ في آن واحد بناء على  المنطق القاضي بأن ما يترتب عن الإلغاء كيفما كان نوعه لا يبقى إلا قاعدة تشريعية واحدة سارية المفعول و يلغى ما سواها ، هذا من جهة مع ما ينتج عن ذلك من جهة أخرى من عدم إمكانية النظر في القانون الأصلح للمتهم. وفي المقابل فإن عدم التسليم  بفكرة الإلغاء الضمني للقاعدة الجنائية وفق ما يقضي به الفصل السادس من التشريع الجنائي يفضي إلى إمكانية اختيار القانون الأصلح للمتهم لوجود عدة قوانين سارية المفعول في آن واحد.

ونافلة القول أن الوضوح الذي نهجه المشرع في الفصل السادس من التشريع الجنائي  يمكن من الوقوف على انعدام الأساس القانوني لفكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي؛ غير أنه بالرغم من هذا الوضوح فإن المقاربتين التشريعية و القضائية لا تزالان تعرفان نوعا من الاضطراب في التعامل مع هذه الفكرة وهو ما سيكون موضوع تناول في المبحث الموالي.

 

المبحث الثاني

تأثير تمثل فكرة الإلغاء الضمني على السياسة التشريعية و القضائية في الميدان الجنائي

من الواضح كما سبق الذكر أن الفقه قد حاول التأسيس أولا لفكرة الإلغاء الضمني للقاعدة التشريعية الجنائية، وقد كان لهذا التأسيس الفقهي تأثير مباشر ليس على العمل القضائي فقط بل تعداه للتأثير في الصياغة التشريعية في هذا المجال. وفي هذا السياق يبقى حريا بنا أن نتطرق ولو بعجالة لبعض مظاهر اضطراب السياسة التشريعية بشأن فكرة الإلغاء في التشريع الجنائي(المطلب الأول) من خلال إيراد بعض الأمثلة والنصوص التشريعية الدالة على ذلك، على أن نتناول ما لذلك من بالغ الأثر على العمل القضائي الذي أخذ في بعض الحالات بمفهوم الإلغاء الضمني للقاعدة الجنائية مما يستدعي منا تقييم موقف القضاء بهذا الخصوص (المطلب الثاني) .

المطلب الأول

 موقف مضطرب للمشرع  بشأن فكرة الإلغاء في التشريع الجنائي

من المعلوم أنه لا نفاذ لأي نص تشريعي إلا من  تاريخ دخوله حيز التنفيذ، وأن كل قانون جديد إما أن ينص فيه المشرع على قاعدة النسخ أو الإلغاء و بالتالي يحدد الأحكام التشريعية التي همها ذلك الإلغاء أو يترك فكرة التحديد تلك للجهات المكلفة بتنفيذ القانون ليستخلصوا الأحكام التشريعية الواجبة التطبيق انطلاقا من مجموعة من المعايير المحددة سلفا في التشريع، كما هو الأمر بالنسبة للفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود، وهذا المعطى لو ثبت صدقه في التشريعات المدنية بصفة عامة انضباطا لمقتضيات الفصل المذكور، فإنه التساؤل يبقى مطروحا في مجال التشريع الجنائي وما إذا كان المشرع يسمح بتمكين غيره من سلطة تفعيل بعض الآليات لتحقيق الإلغاء الضمني في المجال الجنائي.

إن النظر في موقف المشرع بخصوص فكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي يدفعنا للقول بأنه دائما ما ينص على قاعدة الإلغاء أو النسخ إما في بداية النص الجديد، كما حدث بخصوص بعض المضامين التي وردت بنسخة مسودة مشروع القانون الجنائي أو في نهايته كما في أغلب التشريعات، إبرازا لإرادته من إنشاء القاعدة التشريعية الجنائية الجديدة .

و هكذا فالمشرع قد يورد القاعدة التشريعية التي تحدد نطاق الإلغاء إما في بداية النص التشريعي الجديد كما هو الأمر بالنسبة لمقتضيات الفصل 3 من الظهير المتعلق بالمصادقة على التشريع رقم 77.339 بتاريخ 09-10-1977 المتعلق بقانون الجمارك والضرائب غير المباشرة، وهي المقتضيات التي حدد المشرع القوانين التي لم يعد العمل بها جاريا بمجرد دخول مقتضيات التشريع الجديد حيز التنفيذ، أو قد يودر قاعدة الإلغاء في نهاية التشريع الجديد وهي الحالة الغالبة على مختلف القوانين الصادرة؛ كما هو الأمر بالنسبة للمادة 58 من القانون رقم 03-02 المتعلق بدخول وإقامة الأجانب بالمملكة وبالهجرة غير المشروعة، أو المادة 756 من قانون المسطرة الجنائية أو المادة 733 من مدونة التجارة أو غيرها من المواد التي ينهي بها المشرع القوانين الجديدة .

غير أن الملاحظ أيضا أنه باستثناء النصوص الجنائية الخالصة، فإن المقتضيات المتعلقة بالإلغاء لا تشمل المقتضيات الزجرية فقط وإنما تمتد إلى غيرها من المقتضيات غير الزجرية كما هو سلوك المشرع في القوانين التي تتضمن مقتضيات مدنية وأخرى زجرية؛  كما هو الأمر بالنسبة لمدونة التجارة، التي تتضمن أحكاما تجارية و أخرى زجرية، وهو الأمر الذي أصبح يتجسد في مجموعة من القوانين الحديثة تطبيقا لقاعدة امتداد التشريع الجنائي لحماية القاعدة التشريعية ذاتها بغض النظر عن المصالح المنظمة له.

وعلى هذا المستوى؛ أي مستوى وجود قوانين تحتوي على نوعين من المقتضيات نجد أن المشرع يستعمل عبارات تكاد تكون موحدة للدلالة على فكرة الإلغاء من غير تمييز بين القاعدة العادية والقاعدة الزجرية في ذات التشريع؛ الأمر الذي يخلق نوعا من الغموض على مستوى الفهم السليم لنطاق قاعدة الإلغاء هل تشمل كل المقتضيات المخالفة إعمالا للقاعدة الواردة بالفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود مع الأخذ بعين الاعتبار ما يتم ذكره من قوانين صراحة في صلب المقتضى القانوني الجديد القاضي بالإلغاء، أم أن الأمر يستوجب تمييزا بين القاعدة المدنية بمفهومها العام والزجرية على وجه الخصوص؟

تطرح الصياغة التشريعية للألفاظ الدالة على الإلغاء في التشريعات الحديثة إشكالية واضحة على مستوى الفهم؛ ففي الكثير من المقتضيات التشريعية التي يصيغها المشرع للتعبير عن إلغاء المقتضيات التشريعية السابقة نجده يستعمل لفظين غالبين ويتعلق الأمر إما بلفظ “ولا سيما” أو لفظ “على الأخص” أو ما يوازيهما في الدلالة. وكما هو معلوم فإن المشتغلين بالحقل القانوني ينبرون في تفسير دلالة تلك الألفاظ أو العبارات فتتشتت أفهامهم وتنقسم آراؤهم بحسب الزاويا التي يتعاطون منها لتفسير أو تأويل مثل تلك الألفاظ.

وهكذا نجد فريقا يحمل دلالة تلك الألفاظ على معنى التمثيل، وبالتالي يفسرون قاعدة الإلغاء على أنها فقط أوردت النصوص المذكورة على سبيل المثال لا الحصر؛ إذ ليست هي المقصودة لوحدها بل تتعداها إلى كل قاعدة تشريعية قديمة تنظم نفس المواضيع التي نظمها التشريع الجديد. غير أن ما يؤاخذ عليه هذا الاتجاه أنه لا يميز بين القواعد ذان الطبيعة الزجرية وغير من القواعد التي وردت بنفس التشريع.

فإذا كان التفسير وفق هذا الاتجاه يسير وفحوى مقتضيات الفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود بالنسبة للشق المتعلق بالمواد غير الزجرية من القوانين الجديدة أو اللاحقة، و التي قد يؤخذ فيها إما بالإلغاء الضمني أو الصريح، فإنه ليس من المعقول الأخذ بنفس القاعدة فيما يتعلق بالقاعدة الجنائية التي تبقى خاضعة لمقتضيات الفصل السادس من مجموعة التشريع الجنائي المعتبرة قاعدة عامة في الميدان الزجري تقابل ما ينطبق على القاعدة الواردة في الفصل 474 من قانون الالتزامات والعقود بالنسبة للمقتضيات التشريعية غير الزجرية. وبالتالي فالقول بالتسوية بين النوعين من القواعد في تحكيم قاعدة الإلغاء أمر مجانب للصواب أخذا بعين الاعتبار بمبدأ الشرعية على النحو المفصل أعلاه .

أما الاتجاه الثاني فيذهب إلى التمييز بين أحكام الإلغاء الخاصة بالقاعدة التشريعية الزجرية وتلك المتعلقة بالقاعدة غير الزجرية في نفس التشريع ومما ينتج عن هذا التمييز أن هذا الاتجاه يعطي لدلالة العبارات المستعملة من طرف المشرع معنيين؛ أولهما متعلق بالقواعد العادية فعلى هذا المستوى تأخذ عبارات (لا سيما أو على الأخص…) معنى المثال فتدخل بناء على ذلك في حكم المقتضيات الواردة في الفصل 474 من ق ل ع . وثانيهما معنى متعلق بقاعدة زجرية ورد التنصيص عليها في ذات التشريع وعلى هذا الأساس فإن معنى العبارات المستعملة يحمل على الحصر، أي أنه لا يجوز القول بإلغاء أية قاعدة تشريعية زجرية أخرى غير تلك التي وردت بالنص الجديد إعمالا لمبدأ الشرعية وفق مدلوله المتعارف عليه وما يقتضيه ذلك المدلول وتحقيقا لمضمون الأحكام الواردة في الفصل السادس من القانون الجنائي.

وفي نظرنا يبقى الاتجاه الأخير أقرب للصواب إن لم نقل هو عين الصواب؛ على اعتبار أن قواعد التشريع الجنائي تعرف باستقلاليها عن باقي القواعد سواء من حيث طبيعتها أو آثارها وبالتالي لا يمكن تسويتها بباقي القواعد الأخرى تحت أية ذريعة أو سبب .

وعلى ذلك نجد أن مصدر الاختلاف في تفسير دلالة العبارات التشريعية المذكورة هو الصياغة التشريعية ذاتها ما دامت غير متسمة  بنوع من الدقة والوضوح، فمتى كانت تلك الصياغة واضحة ودقيقة كانت الدلالات واضحة والغرض مستوفى وإرادة المشرع ظاهرة لا لبس فيها، و إلا فالمنطق القانوني السليم يجب أن يواجه الإخلالات التشريعية المحتملة، و يتعين عليه أن يحمل المصطلحات التشريعية المستعملة معناها الحقيقي بما ينسجم و طبيعة تلك المقتضيات أو السياق الذي وردت فيه .

وخلاصة القول في هذا الصدد أن دور المشرع الجنائي يتجسد في النأي بالقاعدة التشريعية عن هذا النوع من الغموض الناتج عن عدم وضوح الموقف من فكرة الإلغاء الضمني في المجال الزجري، إذ كلما اتضحت هذه الفكرة وتحدد نطاقها ونطاق تطبيقها وكيفية ذلك التطبيق مع ضبط القواعد والنواظم المؤطرة لها، فإن الصياغة التشريعية ستكون لا محالة سببا في توحيد الفهم ومساهمة في الحفاظ على حقوق ومراكز الأفراد والجماعات، ولكن في ظل النصوص التشريعية الحالية فإن تلك الحقوق والمراكز تبقى محل تهديد ما دام أن القضاء الذي قد يعرض عليه نزاع ذو طبيعة زجرية سيكون مضطرا لا محالة للتعامل مع أحكام الإلغاء عموما في التشريع الجنائي وعندها سيتضح إلى أي اتجاه يميل هل يقبل بفكرة الإلغاء الضمني أم أنه سينتصر فقط لفكرة الإلغاء الصريح؟ مما يطرح مسألة تقييم موقف القضاء من هذه الإشكالية؛ وهو ما سيكون موضوع نقاش في المطلب الموالي.

المطلب الثاني

تقييم موقف القضاء من فكرة الإلغاء الضمني للتشريع الجنائي

يرتبط الموقف القضائي من فكرة الإلغاء الضمني للقاعدة الزجرية، بالموقف الفقهي، ذلك أنه يمكن تفسير ذلك من خلال التعامل المتبادل بين الفقه والقضاء، والذي يلعب فيه الفقه دورا رياديا، إذ إن المهمة المنوطة به تجعله موضع ثقة تستدعي أن ينهل القاضي القواعد والمبادئ العامة مما يقرره الفقه. ولما كان الفقه على اتجاهين وفق ما سبق التفصيل فيه أعلاه بخصوص موضوع دراستنا، فإن الموقف القضائي تشاطر بدوره إلى اتجاهين، اتجاه يرى أن فكرة الإلغاء الضمني لا وجود لها ويعمل على تطبيق المقتضيات التشريعية القديمة في معرض فصله في النزاعات المعروضة عليه غير أن هذا الاتجاه يبقى محدودا بالرغم من وجاهة موقفه أمام التيار الغالب في العمل القضائي والذي يأخذ بالعمل بقاعدة الإلغاء الضمني للقاعدة التشريعية الزجرية تأثرا منه بالموقف الفقهي السائد أيضا .

و هكذا فإنه بالنظر في الأحكام و القرارات القضائية على مختلف درجاتها نجدها تسير وفق أحد الاتجاهي يمكن التمييز بينهما بوضوح، وللتمثيل على هذا الانقسام في الرأي القضائي شواهد عدة نورد بعضا منها لتبيان الغرض فقط.

ففيما يتعلق بالاتجاه الذي يتبنى فكرة الإلغاء الصريح دون الضمني في التشريع الجنائي يمكن الإشارة إلى ما ذهبت إليه محكمة النقض في أحد قراراتها الصادرة تحت عدد 1465/6 بتاريخ 24/6/1998  في الملف عدد 30568/3/94 والمنشور في مجلة قضاء المجلس الأعلى العدد 55 السنة 22 ص 381 وما يليها الذي جاء فيه أنه: ” في شأن وسيلة النقض المتخذة من تفريد العقاب بناء على أساس غير سليم ذلك أن القرار المطعون فيه عمد إلى رفع العقوبة المالية بزيادة خمسة آلاف درهم دون التأكد مما إذا كانت الشيكات موضوع المتابعة منعدمة الرصيد أو ناقصة، و أنه وفقا لمقتضيات الفصل 543 من التشريع الجنائي فإذا كان الرصيد ناقصا لا منعدما فلا يمكن أن يحكم إلا بغرامة مساوية لمبلغ الرصيد الناقص، و يتعين معرفة هذا المبلغ أولا تطبيقا للفصل المذكور في مجال تفريد العقاب، مما يكون معه القرار قد بني على غير أساس ومعرضا للنقض.

حيث إنه خلافا لما أثير بالوسيلة فإن ما عبر عنه الفصل 543 من التشريع الجنائي من كون الغرامة التي يجب الحكم بها لا تقل عن قيمة الشيك يقصد من ذلك التأكيد على عدم إمكانية النزول عن قيمة الشيك أو المبلغ الناقص ” فإن الحكم بمبلغ الشيك كله أو بمبلغ الرصيد الناقص كغرامة عن إصدار شيك بدون رصيد إنما هو أمر اختياري يخضع للسلطة التقديرية لمحكمة الموضوع و لهذا فإن المحكمة لما قضت على الطاعن بمبلغ الشيك كغرامة لم تخرق أحكام التشريع مما تبقى معه الوسيلة على غير أساس”.

كما أن ذات المحكمة سبق لها أن بتت في مسألة التفالس البسيط وفقا لمقتضيات الفصل 559 و 560 من التشريع الجنائي وليس وفقا لمقتضيات مدونة التجارة التي نظمت جرائم التفالس كذلك ، و ذلك بموجب قراره الصادر تحت عدد 1166/3 بتاريخ 12/04/2000 في الملف الجنائي رقم 27353/99 والمنشور بمجلة قضاء المجلس الأعلى العدد المزدوج 57-58 السنة 23 ص 357 وما يليها.

فكما يلاحظ من القرارين أعلاه أن محكمة النقض عمدت إلى تطبيق مقتضيات الفصول 543 و 559 و 560 من التشريع الجنائي  بالرغم من سريان قواعد مدونة التجارة ودخولها حيز التنفيذ بما تتضمنه من أحكام زجرية خاصة بالشيك وأخرى متعلقة بالتفالس؛ مؤكدة من خلال هذا الموقف أن فكرة الإلغاء الضمني لا مجال لإعمالها في التشريع الجنائي ولو كان معمولا بها لأثارتها محكمة النقض من تلقاء نفسها لاتصال أحكام التشريع الجنائي بالنظام العام.

كما يلاحظ على هذا الاتجاه أيضا أنه اعتبر مضمون القاعدة الواردة بالفصل السادس من التشريع الجنائي اعتبارا صحيحا وجسد فكرة تقر سريان تعدد القواعد التشريعية الزجرية المنظمة لنفس الموضوع في آن واحد تجسيدا سليما من غير إلغاء لأي منها ما دام المشرع لم يصرح بإلغائها.

هذا بالنسبة للاتجاه الأول؛ أما فيما يتعلق بالاتجاه الثاني الذي يتبنى فكرة الإلغاء الضمني فالشواهد الدالة عليه لا تدخل تحت دائرة لشيوعها بشكل يمكن معه للباحث أن يستدل بها من غير عناء.

وفي الختام يمكن القول بأن مناقشة فكرة الإلغاء الضمني في التشريع الجنائي لم تأت اعتباطا و إنما استندت لضرورة العدالة الجنائية التي تفترض حماية الحقوق والحريات من جهة وتحقيق نوع من التوازن بين الصالحين العام والخاص من جهة أخرى من خلال الاحتكام لمبدإ الشرعية بما يرتبه هذا الأخير من نتائج مباشرة وغير مباشرة صونا لفكرة المؤسسات واحتراما لمبدأ الاختصاص المؤسساتي.

تم بحمد الله