التعديلات التشريعية المرتقبة لمدونة الأسرة: المقومات ومنهجية العمل في ضوء بلاغ الديوان الملكي

30 سبتمبر 2023
التعديلات التشريعية المرتقبة لمدونة الأسرة: المقومات ومنهجية العمل في ضوء بلاغ الديوان الملكي

التعديلات التشريعية المرتقبة لمدونة الأسرة: المقومات ومنهجية العمل في ضوء بلاغ الديوان الملكي

الدكتورة أمال لكرد

دكتوراه في القانون الخاص

باحثة قانونية وحقوقية

أصدر الديوان الملكي، بتاريخ 26 شتنبر 2023، بلاغا موجه للرأي العام بشأن القرار الذي اتخذه جلالة الملك، أمير المؤمنين، نصره الله بشأن إعادة النظر في مقتضيات مدونة الأسرة، وقد تضمن البلاغ المذكور الخطة المنهجية الموجِّهة لبلورة مشروع القانون المتعلق بالتعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة.

ومما يلاحظ أن الخطة المحددة تقضي بوجود اختلاف جوهري بين مسطرة سن التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة، وتلك المتبعة على وجه العادة في سن باقي التشريعات.

فإذا كانت المبادرة التشريعية، في الأصل، تأتي من قبل الجهات والقطاعات الحكومية المعنية بالمواضيع التي تتناولها مشاريع القوانين؛ فإن موضوع الأسرة يبقى مختلفا تمام الاختلاف عن تلك المواضيع.

ذلك أن الأسرة تعتبر اللبنة الأولى والأساسية للمجتمع، وبالتالي فإنه ليس لقطاع حكومي محدد أن يستأثر بسن مقتضيات تتعلق بمدونة الأسرة؛ لما لذلك من أهمية استراتيجية تتجاوز الخطط الحكومية المرتبطة، تقليديا، بالمجالات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها مما لا يتعلق بالمساس بجوهر التوازن الأسري.

فما هي ملامح الخطة المنهجية المتعلقة بوضع المقترحات الممكن أن تدخل على مدونة الأسرة من خلال البلاغ الصادر عن الديوان الملكي؟

للجواب عن هذا التساؤل، لابد من الوقوف على بعض المنطلقات التي يمكن فهمها من خلال البلاغ الصادر عن الديوان الملكي (أولا)، قبل الحديث عن الخطوات التي يجب اتباعها قبل إعداد مشروع قانون التعديلات المرتقب إدخالها على مدونة الأسرة (ثانيا).

أولا: في الوقوف على بعض المنطلقات الموجِّهة لاقتراح التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة

أكد جلالة الملك، أمير المؤمنين، بمناسبة خطاب العرش الذي وجهه للأمة بتاريخ 30 يوليوز 2022 على:

“إن بناء مغرب التقدم والكرامة، الذي نريده، لن يتم إلا بمشاركة جميع المغاربة، رجالا ونساء، في عملية التنمية.

لذا، نشدد مرة أخرى، على ضرورة المشاركة الكاملة للمرأة المغربية، في كل المجالات.

وقد حرصنا منذ اعتلائنا العرش، على النهوض بوضعية المرأة، وفسح آفاق الارتقاء أمامها، وإعطائها المكانة التي تستحقها.

ومن أهم الإصلاحات التي قمنا بها، إصدار مدونة الأسرة، واعتماد دستور 2011، الذي يكرس المساواة بين المرأة والرجل، في الحقوق والواجبات، وينص على مبدأ المناصفة، كهدف تسعى الدولة إلى تحقيقه.

فالأمر هنا، لا يتعلق بمنح المرأة امتيازات مجانية؛ وإنما بإعطائها حقوقها القانونية والشرعية. وفي مغرب اليوم، لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها.

وهنا، ندعو لتفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها.

وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها.

ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء.

والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها.

فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال.

لذا، نشدد على ضرورة التزام الجميع، بالتطبيق الصحيح والكامل، لمقتضياتها القانونية.

كما يتعين تجاوز الاختلالات والسلبيات، التي أبانت عنها التجربة، ومراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك.

وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.

ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.

وفي نفس الإطار، ندعو للعمل على تعميم محاكم الأسرة، على كل المناطق، وتمكينها من الموارد البشرية المؤهلة، ومن الوسائل المادية، الكفيلة بأداء مهامها على الوجه المطلوب.

وعلى الجميع أن يفهم، أن تمكين المرأة من حقوقها، لا يعني أنه سيكون على حساب الرجل؛ ولا يعني كذلك أنه سيكون على حساب المرأة.

ذلك أن تقدم المغرب يبقى رهينا بمكانة المرأة، وبمشاركتها الفاعلة، في مختلف مجالات التنمية.” انتهى النطق الملكي السامي.

والحقيقة الواضحة أن هذا الخطاب أعطى إشارات قوية وواضحة بخصوص التوجهات الكبرى التي ينبغي اعتمادهما من أجل مراجعة مقتضيات مدونة الأسرة، وهي الإشارات التي نراها محددة لعمل اللجنة المعينة من قبل جلالته لوضع أرضية المقترحات المرتقبة لتعديل مدونة الأسرة. ويمكن إجمال أهم تلك الإشارات في الآتي:

 الإشارة الأولى: بقاء مدونة الأسرة في نطاق حقل إمارة المؤمنين

كما هو معلوم، فإن أي تعديل لأي نص تشريعي أو قانوني يأتي بمبادرة أصلية للجهة الحكومية التي يدخل في نطاق اختصاصها مجال ذلك القانون أو التشريع، وخاصة إذا تعلق الأمر بمشروع قانون. غير أن المجال الأسري يبقى خارج هذا نطاق اختصاص قطاع حكومي بعينه، باعتباره يهم البنية المجتمعية والتي تعتبر الأسرة نواتها الأولى كما نص على ذلك الفصل 32 من دستور 2011 الذي جاء فيه ما يلي:

الأسرة القائمة على علاقة الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع.

    تعمل الدولة على ضمان الحماية الحقوقية والاجتماعية والاقتصادية للأسرة، بمقتضى القانون، بما يضمن وحدتها واستقرارها والمحافظة عليها.”

فكما هو ظاهر، أقر الدستور بأن الأسرة القائمة على الزواج الشرعي هي الخلية الأساسية للمجتمع. وما يثير الانتباه في هذا المقتضى، أن النقاش الدائر عالميا حول طبيعة الزواج، يعتبر محسوما بالنسبة للمغرب الذي استبعد مفهوم الزواج القانوني الذي يحتمل وجود صور متعددة للاقتران في إطار مفهوم “الزواج”، واقتصر على الزواج المؤطَّر بسياج الشرع الإسلامي، ذلك أن مقتضى الفقرة الأولى من الفصل 32 من دستور 2011 جاء باعتباره مبدأً موجِّها، يجب أن تتأطر به كل محاولة تشريعية لتنظيم الزواج، أو إدخال تعديلات مرتقبة على ذلك التأطير.

وإذا كان الدستور قد حدد نطاق القانون بموجب الفصل 71 منه، فإن هذا النطاق شمل العديد من المجالات من بينها ما يتعلق بنظام الأسرة، مع بقاء هذا النظام محتفظا بخصوصيته المستمدة من أحكام الشرع الحنيف مع إمكانية الانفتاح على المقومات الحقوقية والتجارب الناجحة مما يعزز تلك المقومات لكل أفراد الأسرة سواء أكانوا رجالا أو نساء أو أطفالا، وهو ما عبر عنه، من وجهة نظرنا، مفهوم التوازن الأسري، الذي أشار إليه الخطاب الملكي السامي.

وبناء على ذلك فإن ما أشار إليه الخطاب الملكي السامي وما جاء في البلاغ الملكي يؤكد على معطى واحد وهو أن المبادرة الرامية إلى تعديل مدونة الأسرة، وإن كانت ستأخذ في النهاية شكل مشروع قانون ستتقدم به وزارة العدل، على غرار التجارب السابقة، لتنتظم في إطار الفصل 71 من دستور 2011؛ فإنها ستبقى مسبوقة بوضع أرضية أولية يجب أن تخضع للنظر السديد لجلالته، باعتباره أمير المؤمنين، كنوع من الرقابة على مدى وقوع أي تمَاسٍّ مع القواعد القطعية في الشريعة الإسلامية، والتي أكد بشأنها جلالته بمناسبة خطاب العرش لسنة 2022 على أنها لا تقبل التجاوز أو المساس؛ حيث جاء في الخطاب السامي ما يلي: ” وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية.” انتهى النطق الملكي السامي.

وبذلك يكون الخطاب الملكي قد سيَّج نطاق التعديلات المرتقبة في إطار محدد، بسياج متعدد العناصر، تعتبر القواعد القطعية، المتعلقة بالأسرة وأحوالها، في الشريعة الإسلامية أهم مكوناته. بالإضافة إلى مكونات أخرى منها خصوصيات المجتمع المغربي واعتماد منهج الاعتدال والاجتهاد المنفتح سواء على المذاهب الأخرى للفقه الإسلامي من غير المذهب المالكي أو التجارب المقارنة ذات الارتباط بالمجال الأسري، أو حتى ما تضمنته الاتفاقيات الدولية بهذا الخصوص، مادامت منضبطة لقواعد إعمال تلك الاتفاقيات وفق الدستور المغربي. وقد أكد على ذلك جلالته في نفس الخطاب الذي جاء فيه “ومن هنا، نحرص أن يتم ذلك، في إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.” انتهى النطق الملكي السامي.

وقد سبق السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أن صرح للإعلام بأن جلالة الملك هو الذي وضع مدونة الأسرة لسنة 2004 وهي إشارة إلى أن ما يتعلق بهذه المدونة محفوظ لجلالة الملك باعتباره أمير المؤمنين.

الإشارة الثانية: انتظام التعديلات المرتقبة في إطار القواعد الداعمة لقطعيات الشريعة الإسلامية والهوية الوطنية الراسخة للمجتمع المغربي مع الانفتاح على الاتفاقيات الدولية

لا شك أن الإبقاء على مقتضيات مدونة الأسرة، وما لها من تأثير على كل من الرجل والمرأة والطفل، في نطاق حقل تدخل جلالة الملك باعتباره أميرا للمؤمنين له انعكاسات مباشرة على الحدود التي يجب ألا تتجاوزها السلطة التشريعية، وقبلها الجهة الحكومية ال ومختصة بوضع مشروع القانون المتعلق بالتعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة.

وهكذا فإن أي مقترح لتعديل مدونة الأسرة يجب أن يتمثَّل التوجيهات الملكية السامية المحددة في قطعيات الشريعة الإسلامية وما أجمع عليه الفقهاء أو استفردوا به من آراء فقهية مستندة على النص الشرعي، باعتباره الأساس المؤطر لبناء الأسرة القائمة على الزواج الشرعي (الفصل 32 من الدستور كما تمت الإشارة إليه).

وفي هذا السياق، فقد أكد جلالته بما لا يدع مجالا للشك أنه، وبصفته أميرا للمؤمنين، لن يحل ما حرم الله، كما لن يحرم ما أحل الله، وبخاصة في المسائل القطعية التي جاء بها القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول لأحكام الشريعة الإسلامية، الذي لا جدال في ثبوت وروده إلينا على وجه اليقين. حيث قال جلالته “وبصفتي أمير المؤمنين، وكما قلت في خطاب تقديم المدونة أمام البرلمان، فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية. انتهى النطق الملكي السامي. كما أن ما لا يمكن تجاوزه من حلال أو حرام يمكن أن يكون مؤسسا على السنة النبوية الطاهرة التي تبقى موضوع اجتهاد في التفسير وفق ما ذهبت إليه المذاهب الفقهية المختلفة ما دامت تُوجِد تفسيرا مُنبنيا على قواعد أصولية راسخة تمكِّن كلا من الرجل والمرأة والطفل من حقوقهم.

كما يجب أن تأخذ كل المقترحات بعين الاعتبار خصوصيات المجتمع المغربي، وهي الخصوصيات التي أصبحت مكونا أساسيا من مكونات مفهوم “الهوية الوطنية الراسخة” التي كرسها الدستور المغربي، وحدد بعض ملامحها في إطار الفصـل 175 الذي ينص على أنه “لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وباختيارها الديمقراطي، وبالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور.” ومن ضمن تلك الأحكام ما اتصل بنظام الأسرة التي تقوم على أساس شرعي حسب مقتضيات الفصل 132 من الدستور.

ونظرا لما للمقاربة الحقوقية من تأثير بالغ على إحداث التوازن بين الرجل والمرأة، ليس داخل المجتمع فقط، وإنما على مستوى الأسرة أيضا كأساس للتوازن الأسري؛ فإن تمثل الأبعاد الحقوقية للمفهوم الدستوري لمبدإ المساواة كما تم التنصيص عليه في الفقرة الأولى من الفصل 19 من دستور 2011 التي جاء فيها “يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي  مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب، وكل ذلك في نطاق أحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها.” يبقى أمرا مطلوبا يجب أخذه بعين الاعتبار، مع ضرورة الإشارة إلى أن تلك المقاربة الحقوقية يجب ألا تكون عبارة عن صك موقع على بياض، وإنما يجب أن تنهل من مضامين الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب، وعمل على ملائمة تشريعه الوطني مع ما تقتضيه تلك الاتفاقيات بعد العمل على نشرها، وكل ذلك في احترام تام لأحكام الدستور وثوابت المملكة وقوانينها، كما تنص على ذلك مقتضيات الفقرة الأولى من الفصل 19 أعلاه.

وفي نفس السياق أكد السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في تصريح صحفي أن جلالة الملك اختار الوقت المناسب لتعديل مدونة الأسرة تجاوزا للإخلالات التي شابت تطبيق بعض بنودها، وذلك في إطار ما تسمح به الإمكانيات والثوابت الوطنية؛ وهو ما يؤكد أن كل مقترحات التعديلات المرتقبة يجب أن تراعي الثوابت الوطنية التي يعتبر، من وجهة نظرنا، أحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالأسرة في مقدمتها، مع الانفتاح على ما تنص عليه الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب والمنضبطة لقواعد إعمالها الدستورية.

الإشارة الثالثة: انضباط مقترحات التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة لمنهجي الاعتدال والاجتهاد المنفتح في إطار مقاربة تشاركية مجتمعية ومؤسساتية

أكد الخطاب الملكي السامي لعيد العرش 2022 على أن أي تعديل لمدونة الأسرة يجب أن ينبني على مقومات متعددة من بينها تبني منهج الاعتدال والاجتهاد المنفتح، وهما منهجين متلازمين، يقومان، من وجهة نظرنا، على ضرورة النظر في ما يمكن أن يغير في المراكز القانونية للأطراف الأسرية بروح تُوازِن بين الحقوق والالتزامات الأسرية لكل من الرجل والمرأة تحقيقا لمفهوم المساواة، وهذا المنهج لا ينفك ينفصل عن الاجتهاد الذي يهدف إلى الإفادة من مختلف المذاهب الفقهية من جهة، ومن التجارب القانونية والاجتهادات القضائية الأجنبية والمقارنة.

وفي نظرنا، فإن من شأن هذا المنهج أن يثري التجربة الأسرية المغربية التي تشهد تطورا مجتمعيا متسارعا ومنفتحا على التجارب المجتمعية المختلفة نتيجة التداخل والتفاعل بين المواطنين المقيمين على أرض الوطن، والذين يتأثرون بما تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإعلامية من تأثيرات، وبين الوافدين سواء من المواطنين المقيمين بالخارج أو من الأجانب وكذا من حاملي الجنسية المغربية على وفق التعديلات التي شهدتها مقتضيات قانون الجنسية.

وقد أكد البلاغ الصادر عن الديوان الملكي على هذين المنهجين، عندما أشار إلى ضرورة إشراك المجلس العلمي الأعلى والمجلس الوطني لحقوق الإنسان، والسلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، مع الانفتاح على هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين، وهو أمر يُظهر لنا المرونة التي يمكن أن تسود خلال المناقشات بشأن التعديلات المقترحة والمواضيع التي يجب أن تطالها التعديلات.

الإشارة الرابعة: انحصار المقترحات المرتقبة لتعديلات مدونة الأسرة فيما هو قانوني وقضائي ولو بنفس حقوقي

جاء في الفقرة الثالثة من بلاغ الديوان الملكي المؤرخ في 26 شتنبر 2023 “وبموازاة مع تكليف جلالة الملك، حفظه الله، للسيد رئيس الحكومة، من خلال هذه الرسالة، فقد أسند جلالته الإشراف العملي على إعداد هذا الإصلاح الهام، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، وذلك بالنظر لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع”.

وهكذا، يظهر من هذه الفقرة أن سبب تكليف كلا من المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة، والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل حصرا بالإشراف العملي على إعداد مشروع التعديلات، هو كون الرؤية القانونية والممارسة القضائية عاملان أفرزا ما آلت إليه جهود تنزيل مدونة الأسرة لسنة 2004 وما شابها من إشكالات واقعية من جهة، وما عرفته من قصور من جهة أخرى؛ إما بسبب عدم مواكبة النص القانوني للواقع المغربي أو بسبب سوء تَمثُّل العنصر البشري ممثلا في القضاة المكلفين بالقضايا الأسرية والمحامين وغيرهم من المتدخلين في القضايا الأسرية للمضامين النبيلة التي جاء بها مدونة الأسرة. وقد أشار إلى هذا الواقع المرير جلالة الملك في خطاب العرش لسنة 2022 عندما قال جلالته “ وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها.

ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء.” انتهى النطق الملكي السامي.

وبناء على ذلك، فإننا نرى، أن مقترحات التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة ستبقى ذات طبيعة قانونية وقضائية، مشروطة برقابة بعدية لمدى مساس تلك المقترحات بالثابت والقطعي من أحكام الشريعة الإسلامية؛ وهو الأمر الذي يحلينا على المنهجية المرتقب اعتمادها من قبل اللجنة المعينة من قبل جلالة الملك إلى حين بلورة مشروع قانون معدل لمدونة الأسرة.

ثانيا: منهجية العمل المؤدي إلى صياغة مشروع القانون المعدل لمدونة الأسرة

على خلاف المسطرة المتبعة في سن مشاريع القوانين الجاري بها العمل، والتي تقضي بأن تتولى القطاعات الحكومية المعنية بوضع الأرضية الأساسية التي على أساسها سيتم وضع المقتضيات التشريعية، ثم بعد ذلك تتم استشارة القطاعات الأخرى المتدخلة في موضوع مشروع القانون، قبل الصياغة النهائية لمشروع القانون ليأخذ مساره التشريعي؛ فإن البلاغ الصادر عن الديوان الملكي بتاريخ 26 شتنبر 2023 بشأن قرار جلالة الملك بتعيين لجنة لوضع مقترحات التعديلات المرتقبة لمدونة الأسرة حدد مسطرة مغايرة للمسطرة المعمول بها عادة في سن مشاريع القوانين، ويمكن إجمال الخطوط العريضة لهذه المسطرة في الآتي:

أولا: تشكيل لجنة غير حكومية تتولى تنظيم وتسيير المشاورات المتعلقة بسبر الآراء حول المواضيع التي يمكن أن تشملها المقترحات المرتقبة، وتضم هذه اللجنة كلا من المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة ووزارة العدل. وقد تم عقد أول اجتماع لها برئاسة رئيس الحكومة.

ثانيا: العمل على إشراك كلا من المجلس العلمي الأعلى والمجلس الوطني لحقوق الإنسان وكذا السلطة الحكومية المكلفة بالتضامن والإدماج الاجتماعي والأسرة، وهو ما تم بالفعل هذا اليوم الذي يوافق 30 شتنبر 2023. وقد أكد السيد وزير العدل في تصريح صحفي بأن المشاورات مع الهيئات الرسمية ستبتدئ من يوم الاثنين 02 أكتوبر 2023.

ثالثا: العمل على إشراك هيئات وفعاليات المجتمع المدني والباحثين والمختصين في الشأن الأسري من رجال القانون وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والكوادر الطبية وغيرهم ممن يمكن أن يفيد برأيه في وضع المقترحات المناسبة، وإدماجهم في المشاورات المفضية إلى وضع تلك المقترحات. وهنا تجدر الإشارة إلى أن كل هذه الهيئات ستشتغل تحت الإشراف الفعلي للجنة المركزية المكونة من المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة والسلطة الحكومية المكلفة بالعدل.

ومما يلاحظ بخصوص هذه المرحلة فإنها تتميز بحضور قطاعات مختلفة تمثل مشارب متعددة الهويات منها الديني (المجلس العلمي الأعلى) والحقوقي (المجلس الوطني لحقوق الإنسان) وفعاليات المجتمع المدني المهتمة بالشأن الأسري، وباقي الخبراء والمختصين بالشأن الأسري.

رابعا: تتويج المشاورات بوضع مقترحات التعديلات المرتقبة لأهم المواضيع التي ستظهر الحاجة إلى تعديلها في مدونة الأسرة.

خامسا: رفع نتيجة المشاورات وما ترتب عنها من مقترحات إلى النظر السديد لجلالة الملك، بصفته أمير المؤمنين، والضامن لحقوق وحريات المواطنين، وهما الصفتين اللتين أكد عليهما البلاغ الصادر عن الديوان الملكي في فقرته الأخيرة التي جاء فيها “وتقضي التعليمات الملكية السامية، برفع مقترحات التعديلات التي ستنبثق عن هذه المشاورات التشاركية الواسعة، إلى النظر السامي لجلالة الملك، أمير المؤمنين، والضامن لحقوق وحريات المواطنين، في أجل أقصاه ستة أشهر”

وتعتبر هذه المسطرة بمثابة توجيهات ملكية للجنة المكلفة من قبل جلالته، والتي عليها رفع خلاصات المشاورات التي باشرتها إلى أمير المؤمنين والضامن لحقوق وحريات المواطنين في ظرف زماني أقصاه ستة أشهر.

وقد أشار البلاغ إلى أن كل هذه المسطرة ستسبق وضع مشروع القانون المعدل لمدونة الأسرة ليأخذ مساره التشريعي وفق القنوات الدستورية المعمول بها في هذا الشأن.

وختاما، فإنه يتضح أن النقاشات الدائرة حاليا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخارج نطاق المسطرة المذكورة أعلاه، حول التعديلات المرتقبة لأحكام مدونة الأسرة تبقى غير منضبطة للمسطرة المذكورة ما يجعل جهودها مطبوعة بنوع من غير الرسمية، إلا أنها ستبقى مفيدة في تبادل الرأي واستمزاج الآراء بخصوص المواقف المتباينة لمختلف الأطراف.