سوق القضاء

9 يوليو 2022
سوق القضاء

سوق القضاء

“قرر الدستور مبدأ استقلال القضاء ليتمكن القضاة من النطق بأحكامهم تحت تأثير التطبيق العادل للقانون وحده. والتطبيق العادل للقانون، لا يتوقف على استقلال القضاة في أحكامهم عن السلطتين التشريعية والتنفيذية من جهة، وعن سلطة رؤسائهم القضائيين فقط، ولكن كذلك عن كل التأثيرات الأخرى، التي قد تمارسها جهات أخرى خارج السلطة بوسائل مختلفة، كالتهديدات والتشهير، أو عن طريق حشد الجمهور أو تغليط الرأي العام أو غيرها من الوسائل التي تستهدف توجيه القضاة في أحكامهم لاتجاه معين، أو صرفهم عنه” محمد عبد النبوي

لم تكن تعني الجاهلية عيشا دون عدالة، وحياة دون قضاء، وخصومات دون حكم، ونزاعات دون حل، فكثير من الأحكام الإسلامية الثابتة بنص خرجت في الأصل من معين القضاء الجاهلي واجتهادات قضاته، ثم ألبست لباس النص الديني حتى يراعي التشريع خصوصيات المجتمع.

لذا كان القضاء الجاهلي  بسيطا بساطة المجتمع، بعيدا عن التعقيدات المسطرية والأنظمة القانونية التي تطورت تبعا للتطورات الاقتصادية والسياسية والثقافية، فكان يكفي أن يتخذ القاضي مكانا في السوق حتى يبت في النزاعات، باعتبار الأسواق المكان الأمثل آنذاك ظرفا وزمانا ومكانا للبت في الخصومات[1]، لكن مع تطور المجتمعات والحضارات، انتقلنا بالتدريج من قضاء السوق إلى سوق القضاء.

والمقصود بسوق القضاء هنا ليس الفساد القضائي المتمثل في الرشوة وبيع الأحكام والمقررات القضائية كما تصوره ستارتوس باهيس عندما حلل الموضوع اقتصاديا في مقاله عن الفساد في المحاكم، وإنما اعتبار الشأن القضائي بضاعة مربحة يتم تداولها في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي لما تجلبه من جمهور وزبائن ومتابعين وإشهار وأموال …

وطبعا اتسع هامش الربح مع اتساع نطاق الزبائن وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي، علما أن “تسليع القضاء” لا يتطلب رأسمال ومحل وبضائع وسلع. فالسلعة هنا هي الخبر أو الشائعة أو القضية الرائجة أمام القضاء…

وهكذا أنتج الاتجار في النزاعات القضائية ازدواجية في المحاكمات، الأولى رسمية قانونية تخضع لنصوص القانون وأحكام المؤسسات، والثانية إعلامية افتراضية تخضع لأهواء الجمهور وأحكام الشائعات.

هذه الازدواجية تطرح إشكال تأثر المحاكمة الرسمية بالمحاكمة الافتراضية، وارتباط المحاكمتين في المسار والمآل والإجراءات، ومدى إمكانية التوفيق بين الحقيقة القضائية التي يعلن عنها الحكم القضائي والحقيقة الافتراضية التي ينتهي إليها الرأي العام في المحاكمة الافتراضية.

مما يفرض التساؤل حول مدى استقلال القضاء عن سوق القضاء الإعلامي الذي تخلقه مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام؟

منذ أن كتب مونتسكيو كتابه “روح القانون” ترددت أفكاره وكلماته في مدرجات كليات القانون، فحفظت عن ظهر قلب دون مراعاة للظروف والسياق والبيئة. واقتصرت أبحاثنا العلمية على اجترارها دون مراعاة لتغير الظروف أو لكون الباحث ابن بيئته ينطلق من القلق الفكري الذي ينشا من خصوصيات هذه البيئة. وهكذا اقتصرت أبحاثنا في استقلال القضاء على استقلاله عن السلطتين التشريعية والتنفيذية فتوقف قلم باحثينا في تاريخ الثورة الفرنسية دون أن يبذلوا جهدا في التقدم للأمام لمناقشة الإشكالات الحقيقية التي يطرحها عصرنا وللتوسع في تعريف استقلال القضاء تبعا للتأثيرات التي تمارس تبعا “لسلطة” مواقع التواصل الاجتماعي. فاستقلال القضاء اليوم ليس مهددا من السلطتين التشريعية والتنفيذية بقدر ما هو مهدد من مواقع التواصل الاجتماعي ومناقشة القضايا الرائجة والمحاكمات الافتراضية التي تستحيل فيها الجماهير إلى قضاة يحكمون دون علم بالوقائع والقوانين.

“قد يكون للرأي العام بعض الأثر لكنه في حد ذاته ليس بديلا للواجب المخول إلى المحاكم لتفسير الدستور ولدعم أحكامه دون خوف أو تحيز. إن كان للرأي العام أن يكون مقرِّرا فلن يكون هناك حاجة لحكم دستوري … لا يمكن للمحكمة السماح لنفسها بالانحراف عن واجبها بالعمل كمحكم دستوري مستقل بأن تحدد اختياراتها بحيث تحظى تلك برضى الجماهير” آرثرر تشاسكالسون

لهذا فإن الاستقلال الحقيقي هو الاستقلال عن الرأي العام ومواقع التواصل الاجتماعي التي تحول النزاعات القضائية إلى سلعة قابلة للتسويق، وبضاعة تدر ربحا عن طريق تفاعل الجماهير وكثرة الطلب، خصوصا إذا أضيف لها الكثير من الدراما والإثارة والتشويق والفضيحة، فقد علمنا التاريخ الفرنسي أن من أوائل الصحف في فرنسا صحف مختصة في الفضائح.

وهذا ما ينطبق مع تصور بيير بورديو للاستقلال؛ إذ يرى أن استقلال أي مجال يعني استقلاله عن السوق[2].

الفقرة الاولى: خطورة سوق القضاء

في غمرة مرافعته وانفعاله التفتَ خلفه مقاطعا ضوضاء الجماهير قائلا: لا شك أنهم يريدون ان يأخذوا الأمور كلها على هواهم وأن يعقدوا هم المحاكمة في ميدان عمومي حيث يُقِيمون من أنفسهم، وهم عميان بالغضب والجهل والتعصب السياسي، قضاة ومحلفين وجلادين … “

لم يكن صاحب المرافعة سوى المحامي البلجيكي الشهير ايمون بيكار، الذي وجد نفسه في أشهر القضايا على مر التاريخ القضائي البلجيكي مضطرا للفت انتباه المحكمة إلى خطورة تأثير الجماهير على السير الطبيعي للمحاكمة …

لقد كانت صيحات الاستهجان تقاطع مرافعة الدفاع، الذي وجده نفسه مضطرا للتأكيد على خطورة الوضع حتى لا تنساق المحكمة خلف عدالة الجماهير ولا تحكم وفق ضغطها، ففي زمرة العواطف يتوارى الدليل والمنطق والقانون …

طبعا لقد كان ايمون بيكار خطيبا مفوها متمكنا من ناصية المرافعة، خبيرا بأجواء المحاكمة، عليما بقواعد النفس البشرية، فتلمس بفطنته خطورة تأثير الجماهير كما تلمست الجماهير خطورة مرافعته وتأثيرها على المحاكمة فقاطعتها بصيحات الاستهجان لأنها لا تخدم الطرح الذي تدافع عنه.

ولعل خطورة الصيحات المنبعثة من خلف هو ما دفعه لأن يخرج مرة أخرى عن سياق الدفاع للقول: ” زمجروا ما شئتم واهتفوا بسقوطي ما شئتم يا أيتها الحزمة من الأغبياء الجهلة .. من تظنون يعبأ بكم .. من الذي أقامكم هنا قضاة ؟!”[3]

 وإن كان ايمون بيكار قد شعر بخطورة الجماهير على السير العادي للمحاكمة، فإن هذا الخوف والقلق الذي انتابه له ما يبرره ويدعمه … وهو ما سنبرزه من خلال المناقشة العلمية للآثار المترتبة عن سوق القضاء لتوضيح خطورته.

أولا: التأثير على القضاء

يحكي تاريخ محاكم التفتيش عن مسارها الدموي سواء في التحقيق أو الاحاكم أو التنفيذ. لكن ما لا يتوقف عنده المؤرخون كثيرا أن الوحشية التي تتسم بها محاكم التفتيش كانت مطلوبة من الجماهير، لأنها كانت تشبع الوحشية الكامنة في البشر عن طريق مشاهد إحراق المتهمين وتعذيبهم علنا في مشهد كرنفالي مثير للفرجة وممتع للجماهير.

لقد كانت محاكم التفتيش تلعب تقريبا نفس دور الكولوسيوم في روما الذي انتقل من مكان لمنافسات رياضية عادية إلى مكان دموي إرضاء للجماهير.

وطبعا الجماهير التي بإمكانها أن تنقل ساحات الملاعب إلى مسابح دم يمكنها أيضا أن تضغط لتحويل المحاكمات العادية إلى معرض دموي للرعب والتعذيب تلبية لغرائزها وإرضاء لأهوائها.

 ورد في كتاب “محاكم التفتيش” لرمسيس عوض أن رجل الكنيسة وليم ابوت وقع في الإحراج الشديد عندما عُرِض عليه بعضُ المهرطقين سنة 1167 قصد الحكم بمعاقبتهم ولم يجد مخرجا إلا بسؤال الجمع الذي تجمهر عما يريد منه أن يفعل بهم فصرخ الجمهور بالإجماع طالبا إحراقهم، الأمر الذي اضطره وهو كاره الى فعل ذلك[4] .

أرقام وإحصائيات

إن الحديث عن موضوع التأثير دون إحصائيات ونسب، يظل مفتقدا للغة الرياضيات الدقيقة، والمعطيات الحسابية التي لا تكذب؛ لذا كان من الضروري من الاستعانة بمجال الإحصاء حتى تكتمل أبعاد الموضوع المتعددة وأوجهه المختلفة وزواياه المتباعدة.

وحسب الدراسة الإحصائية التي قام بها هاتاس كيبانفر حول تأثير الرأي العام على القضاء، والتي شملت 447  من قضاة الحكم و271 من قضاة النيابة العامة، فإن  نسبة 50 في المائة  تأثرت إجراءاتهم بالتقارير الإعلامية، و 42 ٪ من قضاة النيابة العامة يفكرون في صدى الرأي العام، كما اعترف ثلث القضاة بتأثير التقارير الإعلامية في تفريد العقاب[5] .

وهكذا تبدو لغة الأرقام والنسب مخيفة وإن كانت الدراسة وحيدة يتيمة، لذا فالمفروض أن نبحث عن ما يعزز الدراسة في المجالات العلمية المختلفة.

كيف يتم التأثير؟

قد ينشأ التأثير عن الضغط النفسي الناتج عن الزخم الإعلامي للقضية كما هو الشأن بالنسبة لقضية “مقتل غريغوري” والتي أدت إلى انتحار القاضي جان ميشال لومبارت الذي لم يحتمل إعادة فتح التحقيق في القضية. كما قد ينتج الضغط عن التهديد كما ورد في أحداث رواية المحامي الوغد لجون غريشام.

لكن في الحقيقة، فإن أخطر أنواع التأثير هو ذاك الذي يقع بطريقة غير مباشرة، فيتبنى القضاء موقف الرأي العام دون وعي أو شعور، وقد يعتقد القاضي أنه أصدر حكمه وفق قناعته، لكنه في الحقيقة لم يحكم إلا وفق ما ترسخ وترسب من خلال متابعته للرأي العام.

ولتوضيح ما سبق نستشهد بتجربتين علميتين تؤكدان على أن اتخاذ القرارات يظهر في الوعي وينشأ في اللاوعي، وأن الإنسان يخضع لرأي الجماهير في إصداره الأحكام دون أن يشعر حتى لو كان حكم الجماهير يخالف ما يراه بعينيه.

1. تجربة سلومون اش

كان سلمون اش يضع شخصا في نفس الغرفة مع ستة أشخاص آخرين هم في الحقيقة معاونون للمجرب يتم الاتفاق معهم على اختيار نفس الإجابة.

وبعد ذلك يتم وضع بطاقتين مختلفتين؛ الأولى تتضمن ثلاثة خطوط مختلفة الطول، بينما الثانية تتضمن خطا واحدا منفردا. ثم يتم سؤالهم عن الخط الموجود في البطاقة الأولى والأقرب في الطول للخط المنفرد في البطاقة الثانية.

أبانت نتائج التجربة على أن الشخص يتبع في الجواب اختيارات المعاونين – الذين اتفقوا مسبقا على الجواب الخطأ – رغم أن عينيه ترى خلاف ذلك[6] .

2. تجربة بنجامين ليبيت

استخدم بنجامين ليبيت الرسم الكهربائي للمخ لتوضيح أنه يمكن الكشف عن نشاط في القشرة الحركية للدماغ قبل أن يشعر الشخص بأنه قرر الحركة بحوالي 300 ميللي ثانية.

قام معمل آخر باستكمال هذا العمل باستخدام التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي؛ طلب من الأشخاص الضغط على أحد زرين أثناء مشاهدتهم ساعة مكونة من تتابع عشوائي من الحروف تظهر على الشاشة. قاموا بتقرير أي حرف يظهر في اللحظة التي قرروا فيها الضغط على أحد الزرين.

وجد القائمون على التجربة منطقتين في الدماغ احتويتا على معلومات عن أي الزرين سوف تقوم الحالة بالضغط عليه قبل 7 إلى 10 ثواني كاملة من اتخاذ الحالة للقرار الواعي[7].”

الشاهد في التجارب المتعلقة بالدماغ أن القرار يظهر في الوعي ولكنه ينشا في اللاوعي، أو بعبارة أخرى فإن الشخص يقرر قبل أن يدرك بأنه قد قرر.

 ثانيا: الشائعات وأثر الكلفة الغاطسة 

يعتبر سوق القضاء المرتع الخصب للشائعات؛ ففضلا عما يثيره تداول الخبر من تغيير وتحريف مترتب عن عدم ضبط المعلومات، فإن التسابق نحو رفع نسب المشاهدة وكثرة التفاعلات للرفع من هامش الربح يدفع تجار الفضائح لإضافة بعض الوقائع التي من شأنها جذب اهتمام المتتبعين.

والإشكال هنا ليس في الشائعة في حد ذاتها وإنما لما لتأثير الشائعة – باعتبارها أمرا قابلا للتصديق- على ثقة الجماهير في القضاء.

وللتوضيح لا بأس من الاستشهاد بقضية مقتل جورج كينيدي. اذ انتشرت شائعة منذ الأيام الأولى للجريمة جاء فيها أن عدة أشخاص كانوا في دالاس من أجل إطلاق النار على الرئيس، مما يشير إلى وجود مؤامرة واتفاق مسبق.

 وهكذا ترسخت الشائعة في المخيال الجمعي للجماهير التي لم تقتنع بنتيجة التحقيقات التي أثبت أن لي اوزالد المسؤول الوحيد عن جريمة القتل وأنه ارتكبها من تلقاء نفسه[8] .

وهكذا فإن الجماهير تصدق الشائعات الكاذبة أكثر مما تصدق أحكام القضاء الصادقة؛ الأمر الذي يضعف ثقتها في القضاء لأن أحكامه تتعارض مع الشائعات التي صدقتها.

ولعل ترجيح الجماهير للشائعات على أحكام القضاء لا يرجع فقط إلى اعتبار الشائعة أمرا قابلا للتصديق وإنما لتأثير الكلفة الغاطسة على الجماهير.

والمقصود بأثر “الكلفة الغاطسة” ظاهرة نفسية بحيث يصعب على النفس البشرية أن تُكذِّب ما بَذلت فيه جهدا أو مالا، فحين ينفق المرء الكثير من الوقت والمال والجهد في مشروع ما فإنه يصعب عليه أن يعترف بزيفيه إذا تبين له[9]

 ثالثا: المس بالحياة الخاصة والتشهير

إن شغف الجماهير وتعلقها بتفاصيل القضايا المثيرة، يجعلها لا تشبع أو تقنع بفتات المعلومات المتعلقة بالقضية الرائجة أمام القضاء، وإنما تتبع حتى التفاصيل الدقيقة والصغيرة والتافهة لأشخاصها، من متقاضين ومحامين وشهود؛ الأمر الذي يجعلها تقحم أنفها بدون وجه حق في حياتهم الشخصية التي أريد لها هي الأخرى أن تدخل السوق مادامت بضاعة مطلوبة.

تحكي رواية “أحدنا يكذب” لكارين ماكمنوس عن مسار التحقيقات مع أربعة تلاميذ مشتبه فيهم في جريمة قتل زميلهم، وتبرز من خلال الأحداث كيف تحولت التحقيقات القانونية إلى مسلسل لإفشاء الأسرار والتفاصيل الحميمية اللصيقة بالحياة الخاصة بالمشتبه فيهم بسبب الاهتمام الإعلامي بالقضية، الأمر الذي كان له بالغ الأثر على تلاميذ لم يبلغوا سن الرشد بعد. ويمكن أن نتخيل التأثير النفسي على الشخص بعد انتهاك حياته الشخصية في معلومات تُسرَّب على دفعات، لتحول حياته الخاصة إلى بضاعة إعلامية قابلة للاستهلاك.

لذا سبق للمحكمة الاوروبية لحقوق الانسان – في قضية بيدات ضد سويسرا – أن اعتبرت أن صحافيا قد انتهك الحياة الخاصة لشخص متهم بتسببه في ثلاثة حالات وفاة جراء حادثة سيارة، وذلك بنشره لمقابلات وتصريحات زوجة المتهم وطبيبه بالإضافة إلى رسائل بعثها المتهم إلى قاضي التحقيق بشان جوانب عادية من حياته اليومية في الاحتجاز [10] .

بل الأخطر من ذلك أن تظل هذه المعطيات راسخة في الذاكرة الرقمية ثابتة في محركات البحث عصية على النسيان، إذ تكفي ضغطة زر للوصول إلى التاريخ القضائي للأشخاص وجرائمهم رغم التقادم، فذاكرة العالم الرقمي لا تنسى.

هو نفس المشكل الذي واجه ماريو كوستيغا الذي كان بمجرد أن يُدخِل اسمه في محرك البحث غوغل حتى يجد في نتائج البحث قضية قديمة له تعود لسنة 1998 تتعلق بالبيع الإجباري لأملاكه لاستيفاء الديون المترتبة في ذمته.

وهكذا حرم غوغل المواطن الإسباني ماريو كوستيغا من حقه في النسيان، فقدم شكاية للوكالة الإسبانية لحماية البيانات التي قضت بإلزام شركة غوغل الإسبانية وشركة غوغل الأم بحذف البيانات المتعلقة بماريو كوستيغا، فقدمت الشركتان طعنا أمام المحكمة الوطنية الإسبانية التي أحالت بدورها مجموعة من التساؤلات على محكمة العدل الأوروبية. وقد انتهت المحكمة في قرارها إلى أن شركة غوغل مجبرة على الاستجابة لطلب محو البيانات ما لم يتعلق الأمر بمعلومات تهم المصلحة العامة.

الفقرة الثانية: المناقشة القانونية لسوق القضاء

فرضت خطورة سوق القضاء تدخلا تشريعيا للحد من التأثير؛ وذلك بوضع آليات قانونية وقائية لعزل القاضي عن المحيط الخارجي للقضية المعروضة عليه، ووضع قيود وجزاءات تحد من التعاطي الإعلامي للشأن القضائي لضبط التوازن بين حرية التعبير وحق المتقاضين في محاكمة عادلة.

 أولا: موقف القانون

ينطلق القانون من قاعدة أساسية تقتضي تكوين قناعة القاضي من وسائل الإثبات التي نوقشت أمامه، لعزله عن تأثيرات المحيط الخارجي وفرض تكوين القناعة في القاعة بعيدا عن الضجيج المصاحب للقضية.

لذا فإن المحكمة مجبرة أن توضح بماذا اقتنعت حتى يتاح لمحكمة النقض أن تراقب تطبيق القانون الذي يفرض الالتزام بتكوين القناعة داخل قاعة الجلسات لا خارجها، وبناء على وسائل الإثبات لا وسائل الإعلام.

لكن مجال رقابة محكمة النقض لا يضمن في الحقيقة ابتعاد القاضي عن التأثير، لأنه يقتصر على المجال الذي يجيب عن سؤال بماذا اقتنع لا عن ذاك الذي يجيب عن سؤال لماذا اقتنع؟

والهوة بين المجالين واضحة؛ إذ قد يُكوِّن القاضي الجنائي قناعته متأثرا بعوامل خارجية ثم يستعمل وسائل الإثبات ونصوص القانون في تبرير الاقتناع، فيترسخ لديه القرار في اللاوعي ولا يستعمل وعيه إلا للبحث عن الوسائل التي تبرر هذا القرار، وهكذا لا يظهر لمحكمة النقض إلا قمة جبل الجليد التي تستند على مبررات قانونية سليمة بينما في الحقيقة فإن قاع الجبل أعمق بكثير.

وهكذا يتضح أن مبدأ تكوين القاضي لقناعته يظل قاصرا عن تحقيق الغاية من الفصل بين القضاء والإعلام، لذا كان من الطبيعي أن نجد نصوصا أخرى – وإن كانت متفرقة – تصبو لتحقيق نفس الغاية وتسعى للحد من التأثير أو الضغط على القضاء. لعل أهمها الفصل 266 من القانون الجنائي الذي يجرم التأثير على القضاء في فقرته الأولى.

وعلى العموم فإن التداول الإعلامي للشأن القضائي بمثابة المرتع الخصب لمجال التجريم والعقاب، لأن الجريمة فيه قد تتخذ أكثر من صورة نذكر منها:

1/ التأثير على القضاء

2/ تحقير المقررات القضائية

3 /السب والشتم والإهانة

4 / خرق سرية التحقيق

5/ خرق السر المهني

6 / الجرائم المتعلق بالمس بالحياة الخاصة

وإذا كان المشرع الجنائي يخاطب الإعلام والجماهير بمقتضى النصوص الجنائية، فإن هذا لا يعني أن القاضي يظل بمنأى عن المسؤولية؛ ففضلا عن الفصل 109 من الدستور الذي جاء فيه “يجب على القاضي كلما اعتبر أن استقلاله مهدد أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية “، فإنه يظل مقيدا بمدونة الأخلاقيات القضائية التي وضعت مجموعة من الضوابط لعل أهمها ما نصت عليه الفقرة الرابعة من المادة 20 والتي ألزمت القضاة بالدفاع عن قناعاتهم القانونية ومبررات الأحكام دون التأثر بضغوطات الرأي العام والصحافة.

 ثانيا: موقف القضاء

كما سبقت الإشارة عند التطرق لنصوص القانون، فإن مناقشة القضايا المعروضة على القضاء قد تتقاطع فيها عدة مقتضيات قانونية، لذا فإن التطبيقات القضائية تتعدد تبعا لهذه التقاطعات القانونية المختلفة.

لكن منها ما هو واضح مثل التطبيقات المتعلقة بتحقير المقررات القضائية والسب والقذف والإهانة، ومنها ما هو غامض كما هو الشأن بالنسبة لجريمة التأثير على القضاء.

وحتى لا نتيه في زحام القرارات والتوجهات القضائية المقارنة، فإنني سأقتصر على بعض التوجهات القضائية العامة دون الخوض في تفاصيل القضايا.

1. التوجه الأمريكي

ابتكر القضاء الأمريكي آلية قضائية لضمان التوازن بين حرية التعبير وضمان السير العادي لإجراءات المحاكمة دون تأثير أو تشهير؛ بمقتضى هذه الآلية يتاح للقضاء إصدار أمر بالمنع المسبق من التداول الإعلامي للقضية الرائجة أمام القضاء.

لكن هذه الآلية كانت موضوع طعون كثيرة من وسائل الإعلام الأمريكية في عدة قضايا لعل أهمها وأشهرها قضية اتحاد نبراسكا للصحافة .[11]

2. توجه المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان

حسب عدة قرارات صادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان فإن حرية التعبير في تداول الشأن القضائي مقيدة بشروط إيجابية وأخرى سلبية.

 فأما الشروط السلبية فتتمثل في عدم المس بحسن سير السلطة القضائية وعدم المس بمبدإ استقلالية القضاء وعدم التأثير في قراراته.

واما الشروط الإيجابية فتتمثل في ضرورة أن يكون التداول للقضية المعروضة أمام القضاء موضوعيا بحيث لا يهدف إلى خلق الإثارة أو السخرية وإنما لتغذية النقاش العام.

يتضح مما سبق أن لموضوع سوق القضاء عدة تشعبات علمية ومعرفية تفرض استحضار الأبعاد الفلسفية والقانونية والعلمية للموضوع، وهي الأبعاد التي تزداد تفرعا وتعقيدا مع التطور التكنولوجي، الذي لم يعد يطرح إشكالات تقليدية حول المسؤولية القانونية والأخلاقية للإنسان عن تداوله للشأن القضائي وإنما يفرض آفاق تفكير جديدة في الإشكالات المترتبة عن الخوارزميات والذكاء الاصطناعي والتداول الآلي للخبر، لتجد البشرية اليوم تحديات فكرية جديدة للبحث عن حلول قانونية تضمن العيش المشترك وضبط التوازن بين الحق والواجب، وابتكار حلول تحول دون تسليع مشاكل الاشخاص وبيناتهم وحياتهم الخاصة، لما في الأمر من إهدار للكرامة الإنسانية وتحويل الإنسان إلى مجرد سلعة.

وفي الختام دعنا نقفل الموضوع وننهي صفحاته بمقولة رائعة للإمام علي بن ابي طالب رضي الله عنه عن الغوغاء.

فقد ورد في نهج البلاغة أنه قال في صفة الغوغاء أنهم هم الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا، فقيل قد علمنا مضرة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟ فقال الإمام علي يرجع أهل المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البناء إلى بنائه والنساج إلى منسجه والخباز إلى مخبزه “


[1] لمزيد من التفاصيل حول قضاء الاسواق في الجاهلية انظر جواد علي : المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام ،الجزء الخامس ،الطبعة الثانية الصفحة 652 وما يليها

[2] لمزيد من التفاصيل أنظر بيير بورديو : التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول

[3] لمزيد من التفاصيل حول قضية بلزار انظر: يوسف حلمي ، جرائم ومرافعات ،طبعة 2018 ، ص 9 و ما يليها

[4] رمسيس عوض: محاكم التفتيش ص 9

[5] درعي العربي: ضوابط الحماية الجنائية للخصومة الجزائية من تأثير الإعلام والرأي العام ، مجلة حقوق الانسان والحريات العامة ، العدد السادس جوان 2018

[6] لمزيد من التفاصيل انظر دايفد باتريك هوتون : علم النفس السياسي ؛الطبعة الأولى

 2015 ،ص 84

[7] سام هاريس : الارادة الحرة

[8] جان نويل كابفيرير : الشائعات ، الطبعة الاولى 2007 ، دار الساقي ، ص 10 و 11

[9] عادل مصطفي : الحنين الى الخرافة، الناشر مؤسسة هنداوي ،طبعة 2019 ، ص 10 و 25

[10] المبادئ التوجيهية المتعلقة بحماية الحياة الخاصة في وسائل الاعلام، كتاب صادر عن مجلس اوروبا ص 27 و 28

[11] للمزيد من التفاصيل انظر أكمل يوسف السعيد يوسف : الضوابط في التعامل الاعلامي للشان القضائي ، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية بكلية الحقوق ، جامعة الاسكندرية العدد الاول 2017 المجلد الثاني