تاريخ البذلة ورمزيتها 

14 مايو 2020
تاريخ البذلة ورمزيتها 

تاريخ البذلة ورمزيتها 

الأستاذ هشام اشمارخ

محامي بهيئة المحامين بالدارالبيضاء

“لا يحق للمحامي أن يمثل أمام الهيئات القضائية والتأديبية إلا إذا كان مرتديا بذلة المحاماة “

المادة 37 من القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة،

تقديم:
لقد بدأت قصة سواد بذلة المحامي مع عام 1791، وبالتحديد بفرنسا، لما كان أحد قضاتها جالساً في شرفة منزله، وصدفة شاهد مشاجرة بين شخصين، انتهت بقتل أحدهما، في حين هرب القاتل، ليتم نقل الضحية من طرف أحد الأشخاص إلى المستشفى بنية إسعافه، لكنه لفظ أنفاسه، ليقع ذلك الشخص المنقذ في يد الشرطة، بتهمة القتل رغم براءته، والغريب في الصدف أن القاضي المذكور هو الذي سيحكم في القضية، تبعاً لما قدم له من قرائن ودلائل، وليس تبعاً للحقيقة التي شاهدها وحضر أطوارها، فكان أن تم الحكم على المنقذ بالإعدام، وبعد مرور الأيام بقي القاضي سجين معاناته، وإحساسه بارتكاب الذنب لحكمه بالإدانة على شخص، يعلم أنه بريء، فقرر بالتالي القاضي الاعتراف أمام الرأي العام الفرنسي بأنه أخطأ في تلك القضية.

وذات يوم كان نفس القاضي رئيساً لإحدى الجلسات، فحصل أن كان أمامه المحامي الذي ترافع في قضية المنقذ المذكور، وكان مرتدياً بذلة سوداء، فعمد القاضي إلى طرح السؤال التالي:

لماذا ترتدي هذا الروب الأسود ؟.

أجاب المحامي: لكي أذكرك بما فعلته من قبل لما حكمت ظلماً بالإعدام على شخص بريء، وبهذا كانت تلك الواقعة بداية لتاريخ الروب الأسود، حيث أصبحت الزي الرسمي لمهنة المحاماة، ومن فرنسا انتقل إلى سائر الدول، ليتم وضع الشريط الأبيض، تبياناً للأمل وسط ظلمة السواد، حيث الظلام يحيط بالمتهم، فيكون المحامي ذلك النور الذي يزيح عنه وسوسة الظلام.

ومنذ ذلك بقي الزي المذكور شعارا خاصا تتميز به مهنة المحاماة عن غيرها، علماً أن هناك من يرد أصل البذلة إلى القرن 15 لما كان المحامي رجل دين، وكانت بذلته تشبه اللباس الكهنوتي مع فرق في القبعة.

المحور الأول: شكل الزي ورمزيته وتاريخه:

إن الزي الواجب على المحامين ارتداؤه بالمحكمة، هو عبارة عن قفطان من الصوف الأسود له أكمام طويلة تدلى على اليد، ومذيلة بقماش أسود في مؤخرة الأكمام، وتحمل صدرية من قماش خفيف أبيض اللون مجعد، وكتفية مزدوجة من جهة الأيسر من صوف أسود بأسفلها بياض.

هذا كله بعد زوال غطاء الرأس الذي كان يستعمل للمحكمة أثناء صدور الأحكام، حيث يتم نزعه من رأس صاحبه بعد النطق بالحكم، وكانت تسمى القبعة التي كانت كرمز للاستقلالية. ومنه فإن سواد البذلة وبياضها يعبران عن البحث عن الحقيقة والحرية والحق وسط الظلام، وهكذا يرتدي المحامي بذلته عند القيام بعمله.

وما قيل أعلاه يصدق على المحامي المغربي الذي يرتدي أيضاً بذلة تتألف من رداء أسود مع ياقة وكتفية وربطة عنق من الحرير مجعدة بيضاء. واعتماداً على ما ذكر عن تاريخ البذلة، فإن هناك من أرجعه إلى ما قبل سنة 1791، أي إلى القرن الخامس عشر، اعتباراً لكون المحاماة ذات أصل كهنوتي، إذ كان المحامون رجال دين، وبعد استقلالهم عن ذلك، أضافوا إلى البذلة الياقة والكتفية ثم ربطة العنق، وهناك من يحكي أن المحامي كان يتوافر على بذلتين:

  • البذلة الحمراء: يتم ارتداؤها في المناسبات الرسمية.
  • البذلة السوداء: يتم ارتداؤها أثناء العمل وجميع المناسبات.

وبالذات فقد كان يتم ارتداء البذلة الحمراء أثناء المناسبات الملكية، حيث كان المحامون يمشون وراء رجال الملك، ويفصل بينهم أعوان البرلمان، لإظهار وتأكيد استقلالية المحاماة، وخلال نهاية حكم لويس الرابع عشر 1643-1715 تخلى المحامون عن ارتداء البذلة خارج المحاكم، وتم الاقتصار على ما يعرف آنذاك بالبذلة المدنية قاتمة اللون. وقد تم منع البذلة خلال الثورة الفرنسية سنة 1793، لكن سيتم رد الاعتبار لمهنة المحاماة ومعها البذلة مع مرسوم 2/7/1810 في عهد نابليون بونابارت، الذي عرف أيضاً تنظيم مهنة المحاماة، وتتالت مراحل تقنين بذلة المحاماة، إلى أن صدر قانون 31/12/1971 بفرنسا، ومعها انتشرت في سائر البلدان ومنها المغرب.

المحور الثاني: بذلة المحاماة بالمغرب:

لم تعرف البذلة أي تنظيم ضمن القانون المغربي، إلا مع صدور ظهير 10/1/1924 في فصله 29 الذي نص على ما يلي: (( يرتدي المحامون بالجلسات نفس البذلة التي يرتديها المحامون بفرنسا)). وخلال سنة 1946 في 30 مارس، تم وضع نظام للمحاماة اقتصر على ما ضمن بالقانون الفرنسي، وهو ما تم نسخه بتاريخ 20/12/1944، الذي نص في فصله 19 على ما يلي: (( لا يسمح للمحامي المقيد الحضور بالجلسة إلا وهو مرتدياً بذلة البلدة التي ينتمي إليها )).

وهذا دليل على تعدد البدلات وتنوعها آنذاك، بحسب البلدة التي ينتمي إليها المحامي، وهو ما يتماشى مع الاتفاقية المؤرخة في 18/12/1923 الموقعة بباريز، بجعل مدينة طنجة ونواحيها منطقة دولية، وإنشاء محكمة مختلطة خاصة بها، وأيضا مع القانون الأساسي لنقابة المحامين بتطوان المصادق عليه بموجب الظهير الخليفي المؤرخ في 13/12/1935 الذي نص فصله 15 على الآتي: (( يجب على المحامين أن يمتثلوا لدى المحاكم بلباس أسود باتحاد البذلة الرسمية والقلنسوة الواجبة ما عدا الشارة المتعلقة التي تدل على أنهم من أعضاء الهيئة على أن يتخذونها عندما يحضرون بهذه الصفة. على المحامين عند دخولهم وخروجهم من قاعة المحكمة المطلوب حضورهم فيها، بقصد المرافعة في القضايا وعند الابتداء في خط الدفاع وعندما يطلب التلفظ بالقسم أو الوعد الواجب قانوناً أن يرفعوا قلانسهم عن رؤوسهم علامة لاحترام واعتبار المحكمة….

انطلاقاً من ذلك، توالت الظهائر المنظمة: حيث صدر الظهير 1-59-102 المؤرخ في 18/5/1959 كتنظيم لمهنة المحاماة بشكل مدقق عما ذكر أعلاه، وبه نصت المادة 31 منه على ما يلي: (( لا يخول للمحامي أن يمثل أمام جلسة محكمة ما إلا مرتديا جبة المحامي )).

فكان هذا القانون كمؤطر شامل للمهنة ومقنن لها وللبذلة، وهو ما يظهر من مادته 67 التي نصت على تعرض كل من يرتدي بذلة المحاماة أو أي بذلة مشابهة لها يفهم منها مزاولته لها للعقوبة، وكانت هذه المادة بداية انطلاق حماية البذلة. وقد تلى ذلك المرسوم الملكي المؤرخ في 19/12/1958 الذي نظم هو الآخر مزاولة مهنة المحاماة. حيث جاء فصله 31 بما يلي: (( أيا كانت المحكمة التي يتقدم إليها المحامي، فإن هذا الأخير لا يمكنه أن يظهر في قاعات المحاكمات إلا مرتديا لباس المحاماة )). وقد عاقب في فصله 66 كل من يرتدي بذلة المحامي أو بذلة مشابهة لها إيهاما منه على أنه يمارس المحاماة.

ومع سنة 1979 في الثامن من نونبر صدر الظهير رقم 1-79-305 الذي تضمن الأمر بتنفيذ القانون رقم 79-19 بموجبه تنظم نقابات المحامين ومزاولة مهنة المحاماة. وتبعاً جاءت مادته 41 بما يلي: (( يتعين على المحامي أن لا يحضر في قاعة الجلسات بجميع المحاكم إلا مرتديا بذلة المحاماة )). في حين نصت مادته 125 على معاقبة كل من يوهم أنه محامي بارتداء بذلة المحاماة أو ما يشابهها بالعقوبات المضمنة بالفصل 382 من القانون الجنائي، وهو ما أسس بشكل رسمي لبذلة المحاماة، وجعل كل من حاول ارتداءها من غير المحامين عرضة للعقاب (الحبس والغرامة).

وأخيراً لا آخر صدر الظهير الشريف 162-93-1 بتاريخ: 10/09/1993 بمثابة قانون المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة، والذي وقع تغييره وتتميمه بمقتضى القانون الصادر بتاريخ 10/8/1996، والتي جاءت مقتضيات مادته 37 كما يلي: (( لا يحق للمحامي أن يمثل أمام الهيئات القضائية والتأديبية إلا إذا كان مرتديا بذلة المحاماة)).

في حين كان عقاب غير المحامي الذي يرتدي بذلة المحاماة أو يوهم بذلك حاضراً أيضاً بمقتضى القانون المذكور.

أما القانون رقم 28.08 المتعلق بتعديل القانون المنظم لمهنة المحاماة، فقد تناول بذلة المحاماة في مادته 37 التي نصت على ما يلي: (( لا يحق للمحامي أن يمثل أمام الهيئات القضائية والتأديبية إلا إذا كان مرتديا بذلة المحاماة )). في حين نصت المادة 99 في فقرتها الثانية على معاقبة كل شخص ارتدى بذلة المحامي أو بذلة تشابهها بإمكانها إيهام أنه يمارس المحاماة، وذلك بالعقوبات المنصوص عليها في الفصل 382 من القانون الجنائي المغربي.

خاتمة:
وخلاصة القول، تبقى البذلة رمز استقلال مهنة المحاماة وأصالتها، ونقطة المساواة، حيث لا فرق بين المحامين، والبذلة موحدة بين المحامي المتمرن والمحامي الرسمي، والمحامي العضو والمحامي النقيب، عكس ما كان عليه الأمر سابقاً، حيث كان العضو يتميز بحمل شارة معينة. كما أن البذلة موحدة بين المحامي والمحامية، وهو ما كان عكسه سائداً، لما كانت المرأة ممنوعة من ممارسة مهنة المحاماة، إلا بحلول سنة 1900، ومع ذلك لم تكن بذلتها هي بذلة المحامي.

لكن استقلالية مهنة المحاماة وأصالتها وطبيعتها وحبها للحرية والمساواة، وحد بين ذلك، فكان اللباس موحد والبذلة واحدة…
الاستاذ هشام اشمارخ