العدالة التوقعية مفهوم خاطئ وتصور وهمي لفكرة العدالة

3 مايو 2022
العدالة التوقعية مفهوم خاطئ وتصور وهمي لفكرة العدالة

العدالة التوقعية مفهوم خاطئ وتصور وهمي لفكرة العدالة

منذ عدة سنوات تم إيلاء اهتمام خاص لعملية جمع البيانات ومعالجتها على نطاق واسع، مما أدى إلى خلق فرص اقتصادية كبيرة، بما في ذلك فهم أفضل لاحتياجات المستهلكين ورغباتهم، وتطوير خدمات مبتكرة. ولم يكن المجال القانوني بمعزل عن هذه المتغيرات العميقة، فقد كانت ردود الفعل اتجاه هذا التطور متباينة بين رافض ومتكيف. فبخصوص الرفض، فلأن سوق المهن القانونية المنظمة شهد ظهور فاعلين جدد (les   legaltechs[1] )، بينما أدرك القطاع العام الحاجة إلى الاشراف والحماية، خاصة في مواجهة مخاوف تحديد هوية الأشخاص الطبيعيين. أما من ناحية التكيف، فإن انفتاح قطاعات جديدة يمكن أن يؤدي إلى الازدهار، كما أن السلطات العامة يمكن أن ترى في ذلك حل لمشكلة اكتظاظ محاكم الدولة[2].

وبهذا ظهر في المشهد القانوني خلال السنوات الأخيرة مفهوم العدالة التوقعية -التنبؤية- ” la Justice Prédictive”، وهو مفهوم يشير عموما إلى النهج المتمثل في تطبيق أحدث تقنيات التحليل الآلي للمعطيات والبيانات الضخمة على أسس السوابق القضائية، بهدف معلن هو توقع أكبر قدر ممكن لنتيجة المحاكمة[3].

ولمقاربة هذا الموضوع ارتأينا أن نتولى تسليط الضوء على عدم دقة مفهوم العدالة التوقعية (أولا) ثم الحديث عن التناقض الحاصل بين فكرة العدالة وصفتها التوقعية (ثانيا)

أولا: العدالة التوقعية مفهوم خاطئ وغير دقيق

إن أي تفكير في موضوع مفاهيمي لم تسمح حداثته باستخدامه – من الناحيتين الأكاديمية أو العملية – لتحديد معالمه، يتطلب جهدا أوليا للتعريف به، هذا هو الحال مع فكرة العدالة التوقعية التي فرضت نفسها مؤخرا على مستويين، الأول من منظور فتح بيانات السوابق القضائية، والثاني، من ناحية التحسن الملحوظ في قدرة تقنيات الذكاء الاصطناعي على تحليل البيانات الضخمة[4].

وبقدر ما أن المفهوم فعال وجذاب ومحفز، بقدر ما هو مزعزع للاستقرار، وتبنيه واستخدامه من طرف الفقه أو الممارسة (في التشريعات التي أطرت المفهوم) كان مبهرا، حيث نظمت ندوات ومؤتمرات وفعاليات علمية في الجامعات والمحاكم ونشرت مقالات، حتى المؤسسات البرلمانية زخرت بهذا الموضوع المبتكر الذي طرح عدة تساؤلات قانونية، دون أن ننسى جوانبه الاقتصادية، الاجتماعية، النفسية، السياسية و حتى الفلسفية[5].

والتبني المدوي للمفهوم يعكس التطور الهائل والسريع لشركات التكنولوجيا القانونية المعروفة باسم “LEGALTECH” التي تتميز بالديناميكية والاستجابة الهائلة على أساس الاستخدام التجاري للخوارزميات.


جوهر العدالة لا يكمن في التوحيد القياسي، بل على العكس، ملاءمة القرار مع كل حالة على حدة بتفردها، لا أن تكون كل الحلول متجانسة


ولفظ ” توقعية ” يختزل كل ما يجعل من الممكن التنبؤ بالحقائق انطلاقا من عناصر معينة، فإذا كنا نعني بكلمة “توقع” حقيقة تقييم احتمالية وقوع حدث مستقبلي، فعندئذ يمكن أن يكون مفهوم العدالة التوقعية منطقيا، مثل مفهوم الطب التوقعي، الذي يحدد من خلال دراسة الجينات احتمالية تطور مرض معين [6].

وبالرغم من أن مفهوم العدالة التوقعية مفهوم حديث وبليغ وغني بالرموز، فإن اختيار التعامل معه يرجع أكثر إلى حقيقة أن التعبير فرض نفسه بسرعة كبيرة في الاستخدام الاصطلاحي، بغض النظر عن قانونيته أم لا، وغموض المصطلح يسمح بالتمويه عن الغرض المحدد منه[7]، كما أنه يظل خاطئا حسب بعض الفقه[8]، إذ الحقيقة أنه يتعلق باستخدام الأدوات الرقمية لتحقيق قواعد البيانات والاحتمالات والاحصائيات المتعلقة ببعض مسائل القانون، والنتيجة المحتملة للتقاضي وتسهيل البحث الأساسي وعبور البيانات، بحيث يصبح عمل المحامين مبسطا باستغلال هذه المعلومات وبصورة أقل عشوائية، إنها ببساطة مساعدة في صنع القرار.

فمفهوم العدالة التوقعية يظل حرفيا غير دقيق، فمن الواضح أنه لا يهدف بأي حال من الأحوال إلى “العدالة التي تتنبأ”، ولكن بالأحرى، وبصورة عامة “العدالة التي تتنبأ بها الخوارزميات”، التي تجري حسابات بناء على كتل كبيرة من البيانات (Big Data) المفتوحة (Open Data)، من أجل تحديد التكرارات لغرض التوقع والتنبؤ، وبالتالي فالعدالة التوقعية لن تكون موجودة على هذا النحو، ولن توجد سواء أداة الخوارزمية التوقعية، و بالتالي نتيجة الحسابات المنجزة، لذلك اقترح البعض إدراج المفهوم أو الفكرة في علامات اقتباس، أو استخدام مصطلحات أخرى كالعدالة الحسابية، أو حتى ربطها بالتراث القضائي مثل العدالة الكمية[9].

وبشكل ملموس، سيكون الأمر مسألة تحديد احتمالات نجاح القضية عن طريق تحليل القرارات السابقة الصادرة في نفس المسألة، وبهذا فإن “القدرة التنبؤية” لطريقة توقع القرارات المستقبلية القائمة كليا أو جزئيا على تحليل القرارات السابقة تشكل بلا شك مؤشرا على قيمتها العلمية[10].

لذلك كلما تعلق الأمر بدراسة ما يسمى ” العدالة التوقعية” تكون الإشارة إلى الحل الأكثر احتمالية إحصائيا في إطار دعوى قضائية معينة، وبهذا فظهور العدالة التوقعية يأتي من نظرة مزدوجة: توفير قرارات المحاكم بشكل مجاني وبصيغة قابلة لإعادة الاستخدام (البيانات المفتوحة l’open data)، إلى جانب تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهذه التطورات ذاتها تزيد من القوة الحسابية للخوارزميات المدعومة بالبيانات الضخمة (big data)، وقدرة البرامج على التعلم الذاتي أثناء معالجة البيانات (برمجيات التعلم الذاتي Logiciels « auto-apprenants »)[11].

لذلك تبقى الحقيقة أن فكرة العدالة التوقعية التي فرضت نفسها، رغم تعريفاتها المختلفة، هي دائما متطابقة مع جوهر الخوارزمية، ويتم تعريفها على أنها تسلسل محدود لا لبس فيه من التعليمات يسمح بالوصول إلى نتيجة من البيانات كمدخلات، إما عن طريق مطور بشري (شخص ينشئ البرمجيات)، وإما عن طريق الجهاز نفسه لخوارزمية التعلم[12]( التعلم الآلي أو الاحصائي).

لذلك يجب التعبير عن الخوارزمية بلغة الكمبيوتر، بعد نسخها في برنامج وتنفيذها في برنامج أو تجميعها في شكل تطبيق خوارزمي، وبهذا فإن العدالة التوقعية تستقطب أحيانا الاحصائيات وأحيانا أخرى المعادلات الرياضية[13].

ثانيا :العدالة التوقعية تمثل وهمي لفكرة العدالة

إذا كانت العدالة التوقعية تغدي خيال العدالة التلقائية، السائلة والفعالة، الخالية من المضايقات البشرية، والتي يمكن أن تعزز في نهاية المطاف ثقة المتقاضين في العدالة، فإن صيغة العدالة التوقعية غير دقيقة، إذ تعتمد على الاعتقاد بأن استخدام الأدوات الخوارزمية لتحليل القرارات القضائية الحالية من شأنه أن يجعل من الممكن التنبؤ بما ستكون عليه هذه القرارات في المستقبل، وهذا اعتقاد خاطئ، لأن الماضي لا يسمح لنا بالضرورة بالتنبؤ بالمستقبل، هذا من جهة، ومن أخرى، لأن اللجوء إلى “التعلم الآلي” لا يسمح لنا بالضرورة بمعرفة الحجج  القانونية التي يستند إليها الحكم أو القرار، لذلك فإنه حسب البعض[14] يمكن فهم أن العدالة التوقعية تساعد فقط في تحديد حجم الخطر بدلا من التنبؤ بمحتوى القرار.

والعدالة التوقعية كفكرة ليست بغريبة عن الواقع القضائي[15]، فهي ممارسة شارك فيها مهنيو العدالة لسنوات عديدة، وإن كان ذلك بطرق مختلفة “تقليدية”، إذ أن تحليل القرارات السابقة في محاولة للتنبؤ بنتيجة الإجراءات القانونية كان دائما منهجا للقاضي والمحامي على السواء، بالرغم من أن جميع المقررات لم تكن علنية.

هذه الصيغة “العدالة التوقعية” تساهم في خداع تصورنا لدور العدالة، فالهدف المنشود لا يتمثل في ترشيد المقرر القضائي وجعله أكثر قابلية للتنبؤ به، وأكثر يقينا؛ أو بعبارة أخرى لا يتمثل الهدف في زيادة الأمن القانوني من خلال القضاء على الخطر، لأن جوهر العدالة لا يكمن في التوحيد القياسي، بل على العكس، ملاءمة القرار مع كل حالة على حدة بتفردها، لا أن تكون كل الحلول متجانسة[16].

فخيال استبدال القاضي بالآلة يعتمد على فكرة أنه يمكن وضع كل تفاعل اجتماعي في معادلة، وأن التفكير القضائي يمكن أن يكون آليا، لذلك فإنه من المناسب العودة إلى الوظائف المختلفة للعمل القضائي، فالأمر لا يتعلق فقط بإصدار قرار قانوني، ولكن النظر أيضا إلى الأهمية الرمزية المرتبطة به (الولوج إلى المحكمة، الاستماع إلى حجج الأطراف…)، فهناك علاقة مسرحية ملازمة للفعل القضائي[17].

فسلطة القاضي حسب هذا التصور ستواجه العديد من المخاطر عند استخدم نموذج لقرارات محددة سلفا، الشيء الذي إن كان سيعزز بلا شك الفهم من قبل البرنامج (logiciel) فإنه سيخلق خطر التشغيل الآلي (أتمتة – automatisatio) وتوحيد القرارات القضائية، زيادة على أن الاحصائيات ستؤثر بالضرورة على حكم القاضي، مما سيشكل خطر الانتقاص من حريته، إضافة إلى أن العدالة التوقعية تهدد بممارسة ضغط متزايد على قرار القاضي، الأمر الذي قد ينطوي على مخاطر الجمود والتحفظ في القرارات القضائية، لذا فإنه من اللازم الحفاظ على خصوصية وظيفة القاضي[18].

و بهذا؛ فإذا كنا قد سلطنا الضوء على التناقض الذي يخفيه الجمع بين مصطلح العدالة وصفتها التوقعية، فإنه من المفيد أن نشير إلى أن العلاقة بين اليقين والعلم والقانون في ضوء التاريخ والفلسفة، كان محط اهتمام العلماء لفترة طويلة؛ إذ كانوا يحلمون باختراع علم قادر على التنبؤ بالعدالة، وبهذا فالبحث عن اليقين في القانون هو سمة للبحث الفكري للفقهاء عبر قرون، كما أن البعض يرجعه في الواقع إلى فترة القانون الروماني[19]، وهذا الحلم كان له تأثير عميق على الفكر القانوني منذ القرن السابع عشر، حيث دعا فيها الفلاسفة والمنظرون القانونيون ” لعلمنة” القانون.


[1] أي التكنولوجيا القانونية التي جاء لتعطيل الممارسة التقليدية للمهن القانونية من خلال الاستفادة من التكنولوجيا و البرامج عالية الأداء لتقديم مجموعة من الخدمات القانونية لمستخدمي الأنترنيت بفضل خوارزميات انشاء المستندات، انظر ( https://actu.dalloz-etudiant.fr/a-la-une/article/quest-ce-quune-legaltech/h/90bfcb3177734911f1efb03ecbbc1503.html) .

فقد قامت هذه الشركات باختزال عمل المحامين من خلال تحديد المهام المتكررة دون قيمة مضافة كبيرة ، و غرس البعد الرقمي في هذه المهام كلما أمكن ذلك.

انظر:

Béatrice BRUGUÈS-REIX: La justice prédictive : un « outil » pour les professionnels du droit، Archives de philosophie du droit N1-2018 p 281

[2] Philippe BORDACHAR: La justice prédictive et l’arbitrage international relatif aux investissements étrangers ، Archives de philosophie du droit  N1- 2018 p 199-200.

[3] Éloi Buat-Ménard : la justice dite «prédictive » : prérequis, risques et attentes- l’expérience français. Revue les cahiers de la justice, N2, 2019 p 269

[4] Éloi Buat-Ménard : op.cit, p 270

[5] Sylvie Lebreton-Derrien : la justice prédictive Introduction à une justice « simplement » virtuelle, revue Archives de philosophie du droit, N1, 2018 p 4

[6] Éloi Buat-Ménard : op.cit, p 270

[7] Pascale DEUMIER: La justice prédictive et les sources du droit : la jurisprudence du fond , Archives de philosophie du droit N1-2018 p 49-50

[8] Valérie Lasserre : la justice prédictive et transhumanisme, revue Archives de philosophie du droit, N1, 2018 p 312

[9]  Sylvie Lebreton-Derrien : op.cit, p 5

[10] Éloi Buat-Ménard : op.cit, p270

[11] Philippe BORDACHAR : op.cit p 200

[12] أي منح الآلة قدرة على التعلم من البيانات و تحسين أدائها في حل المهام، دون أن تكون مبرمجة بشكل صريح

[13] Sylvie Lebreton-Derrien : op.cit  p 5

[14] Adrien Basdevant /Aurélie Jean/ Victor Storchan: Mécanisme d’une justice algorithmisée , Rapport; fondation jean jaurès édition, p4

[15] Béatrice BRUGUÈS-REIX: La justice prédictive : un « outil » pour les professionnels du droit، Archives de philosophie du droit N1-2018 p 280

[16] Adrien Basdevant : op.cit , p4

[17] Adrien Basdevant : op.cit , p5

[18] Béatrice BRUGUÈS-REIX: op.cit, p 284

[19] Valérie Lasserre : op.cit , p313

بالرغم من تحفظنا على مثل هذه المواقف التي ترجع أصل الأفكار إلى العصر الروماني