رقمنة مرفق التوثيق العدلي

14 يوليو 2020
رقمنة مرفق التوثيق العدلي

رقمنة مرفق التوثيق العدلي

 

بداية يمكن الجزم أن الرقمنة أصبحت ضرورة لا اختيار في كل المجالات القضائية والإدارية والمهنية لعدة اعتبارات، والتي من شأنها أن تساعد في تقديم خدمات في وقت وجيز دون أن يحتاج المرتفق لتنقل لطلب الخِدمة عن طريق الإدارة الالكترونية وذلك بتحويل العمل الإداري والمهني من إدارة يدوية مادية إلى إدارة رقمية باستخدام الحاسوب بالاعتماد على نُظم معلوماتية تُيسر الخدمة وتساعد في اتخاذ القرار بأسرع وقت وبأقل تكلفة.

فالتقدم التكنولوجي الذي يعرفه العالم يوما بعد يوم، والاعتماد على الحاسوب واستعماله في جميع مناحي الحياة التي عرفت هي الأخرى توسعا كبيرا في مجال المعاملات، فأغلب أنشطة الحياة تحولت من أنشطة عادية إلى أنشطة معلوماتية أساسها التقنيات الالكترونية، هذا المقال منشور على موقع الجامعة القانونية المغربية الافتراضية،  وتسخيرها في تقديم الخدمات كما هو الشأن لمرفق العدالة بمفهومها العام. والدولة لجأت في إطار مشروع الإصلاح العميق والشامل لمنظومة العدالة والذي نهجته وزارة العدل في إطار مبدأ تحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها مع ارتكازها على استخدام التكنولوجيا الحديثة والحوسبة الشاملة للإجراءات والمساطر القضائية في أفق تحقيق المحكمة الرقمية.[1] فتوظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصال يتطلب من الإدارات بذل المزيد من المجهودات بغية ترسيخ ثقافة المعاملات الإلكترونية على كل المستويات والارتقاء بالخدمات الموجهة إلى المواطنين والمهنيين على حد سواء.

ويعتبر التوثيق العدلي محورا أساسيا في المنظومة القضائية، لكونه من المهن القانونية والقضائية التي تزاول في إطار مساعدي القضاء، هدفه الأساسي توثيق الحقوق والمعاملات، والحفاظ على أعراض الناس وأنسابهم، وتحضير وسائل الإثبات، التي تمكن القضاء من فض النزاعات والفصل في الخصومات، بالإضافة إلى المساهمة في التنمية العقارية والاقتصادية والاجتماعية، وتحصيل الموارد وضبط الواجبات المفروضة على المعاملات العقارية وغيرها[2]،فهو جزء من أسرة القضاء وشريك أساسيا في  ضمان الأمن التعاقدي واستقرار المعاملات  والحفاظ على المراكز القانونية وتحقيق العدالة، إذ لا  عدل بدون قضاء ولا قضاء بدون دفاع ولا دفاع بدون وثائق تثبت الحقوق وتضمنها سواء كانت هذه الحقوق متعلقة بالأحوال الشخصية أو المالية كالحقوق العينية العقارية أو التجارية على اعتبار أن العدل الموثق صاحبة الولاية العامة في  التوثيق[3].ماهي سبل تطوير مهنة التوثيق العدلي في ظل التحولات التكنولوجية؟

 

النقطة الأولى : واقع مهنة التوثيق العدلي في ظل الرقمنة

 

إن من القضايا المعاصرة المطروحة على التوثيق العدلي هي تحديات العولمة والثورة المعلوماتية والتكنولوجية الرقمية، التي تستدعي اجتهادا وتجديدا لموضوعات التوثيق العدلي. ولاشك أن تغيرات المكان والزمان لا بد أن تؤدي إلى تحولات في الكائنات والمجتمعات وما تخترع من تقنيات، كما أن ظهور شكل حديث للكتابة والتوثيق والمحررات والعقد والتوقيع الإلكتروني، ويكفي أن ندرك أن هذه “الثورة المعلوماتية ” طوقت الكتابة العادية والإثبات التقليدي في مجال المعاملات الاقتصادية والتجارية فهذا الواقع أقرته التعديلات التشريعية في النظم القانونية المعاصرة إلا في التوثيق العدلي ،إن هذه التحديات التي تفرضها العولمة بمشروعها الحداثي هو تحد علمي في جوهره، وتحد تشريعي في مواكبته.

 

وباعتبار مهنة التوثيق العدلي من أهم الركائز المشكلة للمجال القانوني وبالضبط توثيق جميع المعاملات التي يجيزها القانون، فإنه بدوره لم يبق بمعزل عما يحصل في العالم من تحولات في مجال التكنولوجيا، حيث  تأثر بشكل إيجابي  بالتطور المعلوماتي الذي يعرفه العالم، إذ قربت المسافات التي تربط العدل الموثق بالإدارات ووسعت أفاق عمله مع زبنائه، إذ أصبح بمقدوره القيام بعمله دون الحاجة إلى التنقل من المكتب إلى الإدارات والمؤسسات في كل وقت وحين، مما يوفر على كلا الطرفين -المرتفق ،المهني- مصاريف التنقل وتوفير الوقت الذي يعتبر ثمينا .

 

لا يخف على أي باحث  في القانون المغربي أو مشتغل به أو دارس له على أن الوثيقة العدلية يتدخل في إنتاجها أكثر من متدخل بداية بالعدلين والناسخ ثم القاضي، وحتى لا نعيد ما قد سبق المناداة به منذ زمن طويل في تحرير عمل العدول من مجموعة من القيود الشكلانية التقليدية التي أصبحت عبء على العدول والمرتفقين وذلك بعدم حصولهم على وثائقهم داخل أجل معقول.

 

إن التوثيق العدلي الذي يعتبر الحفاظ عليه ليس في شكله التقليدي بل في تطويره وتطويعه ومحاولة دمجه في أنظمة التوثيق المتطورة التي يعرفها العالم، حيث كان لهذا التوثيق طابعا خاصا في التأريخ للتراث والحضارة المغربية، فلا يجب أن نفرط فيه بل يجب أن نعمل على دمجه في الحضارة المعاصرة، ولا نبالغ إذا قلنا بأن هذا النوع من التوثيق يشكل الحفاظ عليه نوعا من الحفاظ على الهوية المغربية الأصيلة ، إلا أنه مما يلاحظ ويلفت الانتباه أكثر فأكثر لهذا النوع من التوثيق إخضاعه لطرق تقليدية في منهجه تسبب مشاكل متعددة للقضاء[4]، فإذا كان من اللازم على العدول الموثقين أن ينخرطوا في التحولات التوثيقية التي يعرفها العالم في المجال التجاري والعقاري وأن يكونوا على علم بأنماط التوثيق المتعددة في الأحوال الشخصية والمعاملات العقارية والصفقات التجارية والشركات حتى يساهموا في الحفاظ على هذا النوع من التوثيق وفق مقتضيات العصر من جهة، ومواكبة للتحولات التي يعرفها العالم في هذا المجال من جهة ثانية.

فمرفق التوثيق العدلي يساهم بشكل فعال في التنمية الشاملة بل ويساهم أيضا في استقرار المعاملات والاستثمارات العقارية والتجارية والأحوال الشخصية، وبذلك يضمن حقوق وواجبات الأفراد والجماعات، ولكي يؤدي دوره في استتباب المعاملات كيفما كانت، لابد من مسايرته للتكنولوجيا المعاصرة التي أصبح يعرفها العالم وأثرت بشكل مباشر على المعاملات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.[5] فالتقدم التكنولوجي والمعلوماتي الذي يشهده عالمنا الحالي جعل العدل الموثق أكثر فعالية لخدمة المرتفقين ،وذلك عن طريق اعتماده في القيام بعمله عن بعد مع الجهات التي تتداخل في مهامه دون الحاجة إلى التنقل، الشيء الذي يجعله فاعل حقيقي في صلب الإدارة الرقمية. 

 

     

النقطة الثانية: بعض مداخل رقمنة مهنة التوثيق العدلي

 

إن العناية والاهتمام بعلم التوثيق لمن شأنه أن يساهم في تثبيت أسس المعاملات وضمان الحقوق ،هذا وإن الانفجار الوثائقي الذي يعرفه العالم الآن نتيجة للثورة التكنولوجية المتطورة في مجال المعلوميات التي ساهمت في انتقال عمل العدل الموثق التقليدي الورقي المطلق إلى عمل رقمي اللامادي، وظهور أنواع متعددة من العقود التوثيقية، كل ذلك يستدعي منا الوقوف والتأمل وإعادة النظر في مناهجنا التوثيقية التي يجب أن تخضع لكل ما هو علمي وإيجابي فرضته علينا العولمة الكونية، حتى نساير الركب الحضاري الذي يعرفه العالم الآن في مجالات متعددة، وعدم التفريط في هويتنا وأصالتنا.

 لهذا أصبح من اللازم على الدولة بمختلف مؤسساتها أن تعمل في أقرب وقت على تعديل القانون المنظم للمهنة وفق مقاربة تشاركية بما يتلاءم مع متطلبات الظرفية التي يمر منها المغرب دون إغفال المؤهل العلمي للسادة العدول الموثقين في التخصص القانوني، بالتالي وجب وضع حد للنظرة النمطية والتمثل الاجتماعي لعمل العدول الموثقين وذلك يتطلب بدرجة أولى تعديل القانون المنظم 16.03 وما يحمله من عراقيل على مستوى تعدد المتدخلين في إنتاج الوثيقة ووضع حد للتمييز السلبي بين المهنيين على مستوى تشريعات أخرى كقانون المالية لسنة 2010 في المادة 93 منه المتعلقة إنجاز الوعد بالبيع وعقد البيع السكن الاجتماعي.

كما يجب التسريع في وضع اتفاقيات ذات الصلة بالمؤسسات المتداخلة بدء بوزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية[6] و الإدارات التابعة لوزارة المالية وكذا مؤسسة المحافظة العقارية ومؤسسة العمران وصندوق الإيداع والتدبير، نظرا لمكانة العدول الموثقين ضمن المهن القانونية من خلال مركزها المحوري في توفير الأمن التعاقدي وحماية المراكز القانونية واستقرار المعاملات وتحقيق السلم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية.

ومن أجل التحول من الإدارة التقليدية إلى الإدارة الالكترونية لا بد من تحقيق المراحل التالية:

  • أتمتة مؤسسات الدولة وكذلك الشأن بالنسبة لعمل المهنيين في منظومة العدالة عموما والتوثيق العدلي على وجه الخصوص.
  • تأمين البينة التحتية الضرورية لربط كافة مؤسسات الدولة بشبكة معلومات واحدة وتبادل المعلومات بين مختلف الجهات.
  • تحديد جميع التعاملات بين المهني وكل مؤسسة وتحويلها إلى تعاملات الكترونية.

كل هذا سيحقق مجموعة من الأهداف :

 خفض الأعمال الورقية

 تحسين الخدمات

خفض المصاريف

 خفض التنقل

 وسهولة الوصول للمعلومات

  وخفض تكاليف العمل مع رفع مستوى الأداء تجاوز مشكلة البعدين الجغرافي والزمني ووضع حد لبعض الممارسات اللامشروعة.

في الأخير واستجابة للبرنامج الإصلاحي الذي تنهجه الدولة المغربية في شتى القطاعات من أجل تخليق الحياة العامة وتحديث الأساليب والمناهج المتبعة في التسيير الإداري والمهني، وعصرنة المهن الحرة، لمواكبة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يجب تعديل القانون المتعلق بخطة العدالة بشكل جذري حتى يلبي حاجيات المرتفقين والمهنيين على حد سواء، ويستجاب في نفس الوقت لانتظارات الفاعلين في القطاع على جميع المستويات.

وقد سبق للهيئة العليا لإصلاح منظومة العدالة أن أكدت في التوصية رقم 12 والمتعلقة بمراجعة التشريعات المنظمة للمهن القضائية والقانونية في اتجاه تعزيز استقلاليتها كما هو الشأن لخطة العدالة، وكذا توطيد خضوعها ولوجا، وتنظيما، وتدبير المبادئ المنافسة ،والشفافية والمسؤولية والمساواة أمام القانون بما يخدم الصالح العام ،لتحقيق أهداف التوثيق، والدفع بعجلة الاستثمار لتحقيق التنمية الشاملة والتنزيل الفعلي للنموذج التنموي الجديد والمساهمة في تنفيذ الإرادة الملكية. مما يستدعي رقمنة المهنة ومعاملاتها وتسهيل ولوج العدول الموثقين لجميع المنصات الإلكترونية للإدارات المعنية  التي لها علاقة بعملهم قصد تلبية حاجيات المرتفقين في أسرع الآجال وتمكينهم من ولوج المنصات الإلكترونية لكل المصالح الإدارية الحيوية التي لها علاقة بعملهم.

 

 

[1]  – عازف الحسن ،المحاماة في أفق المحكمة الرقمية، المواضيع المعروضة على المؤتمر  التاسع والعشرين، هيئة المحامين بالجديدة، بشراكة جمعية هيئة المحامين بالمغرب،ص:169.

[2] ظهير شريف رقم 1.06.56 صادر في 15 من محرم 1427 (14 فبراير 2006)بتنفيذ القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة الجريدة الرسمية عدد 5400 بتاريخ فاتح صفر 1427 (2 مارس 2006)، ص 556.

[3]  – – ادريس اجويلل ،أثر تيار العولمة على نظام التوثيق بالمغرب، ندوة التوثيق واقع وأفاق أشغال الندوة الوطنية المنظمة من طرف مسلك القانون الخاص بالكلية متعددة التخصصات بتازة جامعة سيدي محمد بن عبد الله يومي 24-25 أبريل2008 ، ص60 ومايليها

[4]  – إن التمسك بخطاب القاضي على الرسوم العدلية ينافي دواعي التجديد، ومقتضيات التحديث التي يعرفها العالم عموما ومنظومة العدالة بالمملكة المغربية خصوصا، وعليه فلابد من إرادة حقيقية  لاتخاذ قرار حازم من شأنه أن يخفف العبء عن القضاء،  ويُخلِّصه من وظيفة شكلية صارت إشكالية بالممارسة .

[6]  – أشارنا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية لارتباط التوثيق العدلي بمؤسسات قاضي التوثيق.