مقاربة مقتضيات مدونة الأسرة بين البعدين الاجتماعي والقضائي

16 أغسطس 2022
مقاربة مقتضيات مدونة الأسرة بين البعدين الاجتماعي والقضائي

مقاربة مقتضيات مدونة الأسرة بين البعدين الاجتماعي والقضائيتوثيق ميثاق الزوجية أنموذجا

مقدمة

لقد عبر القضاء المغربي منذ القدم على براعة هائلة في تناول النوازل والأحكام([1]). ولعل أكثر ما يدل على هذا الأمر تفننه في صياغة ما اصطلح عليه في المذهب المالكي بما جرى به العمل([2]) الذي يعد عن حق ممارسة قضائية بارعة ([3]) وَفَّق من خلالها القاضي المغربي بين مضمون القاعدة الشرعية والاجتهاد الفقهي مع واقعٍ متجددٍ متشبعٍ بأعراف وتقاليد شكلت أساسا لهوية مغربية متأصلة.

وفي يومنا هذا يشكل الدستور الصادر سنة 2011 ضمانة هامة للقضاء في لعب نفس الدور الذي لعبه أسلافه كما ألمحنا لذلك. فهو من جهة ؛ ضمن للقضاء استقلاليته ([4])من خلال جعله سلطة في حد ذاته على عكس ما كان عليه الأمر في دستور 1996. و من جهة أخرى؛ ربط أحكام القضاء بضرورة تطبيق القانون، كما ربط هذا التطبيق بغاية نبلى وهي التطبيق العادل للقانون إذ نص في الفقرة الأولى من الفصل 110 على مقتضى في غاية الأهمية حيث جاء في هذه الفقرة: ” لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون”.  وهو فصل تجاوز بالقضاء حد الوقوف عند حدود المنطوق الحرفي لمضمون القاعدة التشريعية ليتجاوزها قاصدا بذلك تحقيق القيمة الحقيقية للقضاء ألا وهي إقامة العدل. وخدمة لنفس الرسالة فإن هذا النص سيمكن القضاء من إمكانية الاستنجاد بقواعد أخرى قد تشكل مضمونا للقاعدة القانونية حينما نص على مبدأ التطبيق العادل للقانون. وهو مبدأ يستدعي إعادة فهم مفهوم القانون في حد ذاته وذلك بعدم الانزواء به في الحدود الضيقة التي ترسمها النصوص التشريعية. ويبقى الضابط في كل ذلك هو ممارسة هذا الاجتهاد في تحقيق العدل في إطار ثوابت الأمة وهويتها المتأصلة التي حددها الدستور ذاته في ديباجته وفي فصوله الأولى.

ولعل أهم ما يمكن أن تتجلى من خلاله براعة القضاء ومدى قدرته على حل الإشكالات وأن تضعه في محك حقيقي هي قضايا الأسرة. إذ الأسرة هي الملاذ الأول الذي يجد فيه الفرد نفسه، مما يجعل العلاقة التي تنبثق منها تلك الأسرة دائما محط اهتمام بالغ من طرف كل الفاعلين. وهو الأمر الذي يزيد من صعوبة التعامل مع هذا النوع من القضايا، سواء من طرف المشرع أو من طرف القضاء.

فالمشرع مثلا رغم تعدد المؤثرات والنظرات ومنطلقات كل فريق، نجده فيما يتعلق بأحكام الأسرة برمتها لم يتجاوز التصور الاجتماعي لمؤسسة الزواج؛ وهو تصور قائم بالأساس على ضرورة ضمان حِلِّيَة العلاقة القائمة بين طرفي عقد الزواج لا أقل ولا أكثر. وبتعبير آخر ضرورة قيام الأسرة على أسس شرعية.

إلا أنه في مقابل هذه النظرة المتحكمة في توجهات المشرع فإنه في تنظيمه لعقد الزواج نلاحظ أنه قد عمل على التوفيق بين اتجاهين أحدهما ينادي بضرورة إغلاق كل المنافذ أمام الزيجات التي تتم وفقا للعادات والتقاليد والأعراف مما يستدعي توثيق عقد الزواج كتابة وجعل هذه الأخيرة هي الوسيلة الوحيدة والمقبولة في إثبات عقد الزواج. واتجاه آخر لا يعطي أهمية قصوى لمسألة توثيق عقد الزواج بقدر ما يراهن على ضرورة قيام الزواج على أسس شرعية وأن مسألة إثبات الزوجية لا يمكن بأي حال من الأحوال حصرها في وسيلة معينة ما دام الزواج قد تم بشكل صحيح واستوفى أسسه الشرعية التي يقوم عليها وهي أسس دأب المغاربة على الحرص عليها منذ زمن بعيد.

وفي خضم هاتين الرؤيتين برزت للوجود أحكام المادة 16 من مدونة الأسرة كأساس تشريعي حاول من خلالها المشرع وضع توافق بين مطالب الفئة الأولى ومطالب الفئة الثانية. لكن من الوهلة الأولى نسجل موقفا حازما للمشرع إذ توقف في حدود التعبير عن كون وثيقة عقد الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج. وهو الأمر الذي يستفاد منه رفضه مسألة حصر إثبات الزواج في مسألة التوثيق بالكتابة، إذ لو رمى إلى ذلك لكانت الفقرة الأولى من المادة 16 بصيغة:” تعتبر وثيقة عقد الزواج الوسيلة الوحيدة المقبولة لا ثبات الزواج ” وهو الأمر الذي لم يحصل. وتأكيدا لموقفه المعلن نص في الفقرة الموالية في ذات المادة على ما يلي: “إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة.” وما يميز نص مدونة الأسرة هو أنها جعلت أحكام دعوى سماع الزوجية أحكاما مؤقتة. وهي مدة كما هو معلوم استنفذت دون تدخل من طرف التشريع لتمديدها. لتظهر الحاجة الملحة إلى تدخل حازم للقضاء؛ تدخل يبين من خلاله هذا الأخير مدى قدرته على حل إشكالية بات أمر النظر فيها آنيا لا يستدعي أي تأخير.

الإشكالية

في خضم هذه المعطيات يحق لنا طرح إشكال جوهري مرتبط بمدى قدرة السلطة القضائية على التفاعل مع نسق التفكير الاجتماعي عبر صياغة أحكام وقرارات يمكن أن تشكل في المدى القريب نبراسا يهتدي به المشرع لسد الفراغ ورفع النزاع؟

الفرضية

إن الإجابة عن هذه الاشكالية يستدعي منا بالضرورة وضع فرضية أساسية، وهي فرضية تقضي بكون أن القضاء كسلطة أوكل له أمر الفصل في المنازعات، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن ينسلخ من الواقع والسياق الاجتماعي الذي يشكل مجالا لاشتغاله؛ إذ هو جزء لا يتجزأ من ذلك الواقع. بل أكثر من ذلك فالقضاء عبر الممارسة اليومية وكثرة النوازل بات السلطة الأكثر امتلاكا للمؤشرات التي تجعله مؤهلا للمساهمة في صياغة تشريع أسري يتناسق مع انتظارات الأسرة المغربية.  

لتناول الإشكالية المطروحة والتحقق من مدى صحة الفرضية التي وضعناها سوف نعمل على تقسيم هذا المقال إلى مطلبين، الأول سنخصصه للجانب النظري والتشريعي محددين موقفهما من مسالة ثبوت الزوجية، في حين سنخصص المطلب الثاني للحديث عن موقف النظرة الاجتماعية من مسألة ثبوت الزوجية ومدى مساهمة القضاء في معالجة المسألة.

المطلب الأول: ثبوت الزوجية من الفقه المالكي إلى التشريع الأسري

إن الحديث عن موقف الفقه المالكي من مسألة توثيق ميثاق الزوجية يعد جزءا لا يتجزأ من موضوع الإشكالية التي يطرحها هذا المقال. فالمذهب المالكي قد أمسى مدرسة فقهية موجهة لسلوك الفرد المغربي، لذلك فإن الحديث عن موقفه هو حديث بالضرورة عن تمثل وممارسة اجتماعية راسخة لدى المتجمع المغربي بشأن كافة القضايا التي يمكن أن تطرح على مستوى الساحة القانونية والتي أخذنا منها مسألة توثيق ميثاق الزوجية نموذجا للدراسة. كما كان من اللازم الحديث عن موقف التشريع باعتباره آلية حديثة تعبر من خلالها الدولة عن خطابها التشريعي وعن توجهاتها. لذلك سنقسم هذا المطلب إلى فقرتين: الأولى سوف نتحدث من خلالها عن إثبات ميثاق الزوجية في الفقه المالكي، في حين سوف نتحدث في الفقرة الثانية عن اثبات الزوجية وفقا لأحكام التشريع الأسري.       

الفقرة الأولى: تطور إثبات ميثاق الزوجية عند فقهاء المالكية

لقد استقر الفقه المالكي على أن الكتابة ليست بركن ولا بشرط في الزواج، بل كل ما حرص عليه هذا الفقه هو ضرورة توفر أركان الزواج؛ من زوجين وصيغة. فلم يُخضِع الفقه ميثاق الزوجية لأي شكل من الشكليات سواء تعلقت بالكتابة أو الإثبات مراعاة لأحوال الناس وما استقروا عليه. فقد استقر المجتمع المغربي لمدة طويلة على أن كتابة العقود بشكل عام ليس ضروريا. إذ لم تكن كتابة العقود عموما منتشرة كما في وقتنا الراهن. وهو أمر كان سائدا قبل مجيء الإسلام، ولما جاء الإسلام استمر العمل بهذا الأمر إذ لم يأت نص قطعي يحث الناس على ضرورة كتابة عقود الزواج، فضل العمل بهذا الأمر إلى وقتنا الحاضر([5]).

و الخلاف الذي ثار بين الفقهاء، تعلق فقط بمسألة الإشهاد فيما إذا كان شرطا لصحة الزوجية أم  شرطا لتمامها ([6]). لذلك نجد جانبا من الفقه المالكي خاصة الأقدمون يرون أن الاشهاد شرط تمام، إذ تحققه واجب انتهاء لا ابتداء. أي واجب عند الدخول فاعتبروه من شروط التمام ([7]). و ما راهنوا عليه هو تحقق الشهرة لصحة الزواج ([8])، ذلك أن الشهرة في نظرهم (وهي نظرة تنسجم تمام الانسجام مع طبيعة التصور الاجتماعي لمفهوم الزواج) هي ما يميز الزواج الشرعي عن الزنا، التي تقتضي التسري وهي بذلك عكس الزواج. فقد قال مالك: “وإذا زوج رجل رجلا ابنته، وقال أخبر من لقيت، وكذلك أنا، ففعل ثم ندم أحدهما، فقد لزمهما النكاح، والشهادة جائزة، ولا يفسد النكاح بتأخير الإشهاد …”([9]). مما يستفاد معه أن إفشاء الزواج وإعلانه هو المعتبر عند مالك رحمة الله عليه. إذ الزواج عنده منعقد بغير شهود وإذا وقع التداعي فيه اعملت البينة لإثباته([10]). أما المتأخرون من فقهاء المالكية فقد قرروا عكس ذلك إذ يرون أن تحقق الإشهاد يجب أن يكون ابتداء ولا يجب انتظار الدخول. ولقد علق شارح التحفة على ما قاله الناظم حول هذه المسالة:

و في الدخول الحتم للإشهاد     وهو مكمل في الانعقاد ([11])

إذ قال: “لا يقرر المتأخرون حكم الإشهاد إلا أنه شرط في الدخول، ولا يعتبرون الشهرة التي هي خاصية النكاح في نظر الأقدمين، ونحو ما اشتد المتأخرون في سد الباب بتحصيل هذا الشرط، حتى كاد الموثقون بالجزم به أن يوافقوا مذهب المخالف، ويجعله ركنا للماهية، وخلو بعض الأنكحة عنه، مع وجود الشهرة مما تعم به البلوى، لمن تناول الأحكام خارج الحضرة في ولاية الكور([12])؛ لفقدان من يحكم طريقة التوثيق عندهم، فتحدث من ذلك نوازل متعددة، وفي كلام المتقدمين ما يشعر أن معظم انصراف القصد في النكاح إنما هو الشهرة.” ([13]).

وقد سئل الأستاذ سعيد بن لب عن ما شابه هذا الجدل فأجاب: “أنه قد ذكر أهل المذهب: أن الإشهاد بالنكاح وشهرته على الزوجين والولي بذلك يكفي، وإن لم يحصل إشهاد، وهكذا كانت أنكحة كثير من السلف، وهذا المعنى قد حكي عن ابن القاسم…” ([14]).

وفي إثبات الزواج فقد كان الفقه يميز بين نوعين من الزوجية، الأزواج الغرباء الوافدين على البلدة، وهذه الفئة كان الفقه يقر بصحة زواجها اعتمادا على ما كانوا يطلقون عليه بالتقارر. والتقارر هو: أن يدعي كل منهما أنه زوج للآخر دون إنكار من أحدهما. أما أهل البلدة فتقاررهما وادعائهما الزوجية غير كاف إذ لا بد من البينة.([15])

والمستفاد مما ذكر هو أن الفقهاء داخل المذهب، اختلفوا حول مسالة الإشهاد. وذلك باختلاف؛ الأزمنة والأمكنة وهو ما يعبر عن تطور نظر الفقه حسب ما يقتضيه المجتمع. أما حصر إثبات الزوجية في توثيق عقد الزواج بالكتابة فهذا أمر لم يكلف به أحد من الفقهاء أي فرد. وهذه النظرة التي ضبط بها الفقه المالكي هذا الموضوع هي نفس النظرة التي تبناها المجتمع المغربي وتربى في كنفها وتشبع بها منذ قرون؛ وإن كان التوجه اليوم يصير نحو تشبيع الأفراد بفكرة توثيق ميثاق الزوجية بالكتابة. وهذا أمر طبيعي إذ التبدل والتغير من سنة الكون. والإنسان لا يجمد على حكم واحد بل ما قد يكون اليوم مستساغا من جهة العرف قد لا يغدو كذلك فيما بعد. إلا أنه رغم ذلك فإن بقايا الماضي من أحكام شرعية وأعراف لازلت ترخي بظلالها في تأطير هذا الموضوع بل هي أحاكم حاسمة في هذه المسألة. وهو الأمر الذي يستدعي استمرار العمل بالقواعد الفقهية التي تناولت الموضوع لاستيعابها الحقيقي للتصور الاجتماعي وموقفه من هذه المسألة، و ذلك ضمانا أولا للأسس الشرعية للعلاقة التي تجمع بين الرجل والمرأة وضمانا لما قد يطرأ كأثر عن هذه العلاقة؛ من نفقة، ونسب، وما إلى ذلك من الحقوق التي يرتبها ميثاق الزوجية.

الفقرة الثانية: توجه التشريع الأسري نحو اعتماد الكتابة في إثبات الزوجية

كما سبق التأكيد على ذلك فقد حظي أمر توثيق العلاقة الزوجية باهتمام بالغ من طرف التشريع الأسري؛ من مدونة الأحوال الشخصية وصولا إلى مدونة الأسرة. لكن طبيعة النظرة التي حكمت نظر مشرع مدونة الاحوال الشخصية كانت مختلفة تماما عن تلك التي تبناها مشرع مدونة الأسرة.

فبالرجوع إلى المشروع الذي تقدمت به وزارة العدل، للجنة وضع مدونة الأحوال الشخصية المغربية. نجده قد تصدى لهذا الموضوع من خلال الفصل الخامس منه والذي نص على أنه: “يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين عدلين سامعين، في مجلس واحد الإيجاب والقبول من الزوجين، وموافقة الولي مع التي لم تصل سن الرشد القانوني، فاهمين المقصود بهما، وتسمية مهر الزوجة.” وما يفهم من النص الذي تقدمت به وزارة العدل هو أنها ذهبت الى اعتبار الإشهاد في الزواج ضرطا من شروط الصحة في العقد آخذة بذلك ما ذهب إليه المتأخرون من أهل المذهب، والذي سبق أن تطرقنا لموقفهم. وقد لاحظ مقرر اللجنة الاستاذ علال الفاسي رحمة الله عليه على هذا النص: أنه مبني على سد الذريعة والاحتياط للمصلحة، ومادام الأمر كذلك فقد كان من الحري مراعاة لأحوال المغاربة وما ألفوه في هذا الباب وسدا للذريعة كان من الضروري عدم إلزام الناس بمقتضى هذا النص وذلك بتمكين الزيجات التي لم تتمكن من توثيق زواجها من توثيقه. واستجابة لهذه الملاحظة فقد أعيد النظر في مقترح وزارة العدل المومأ له سابقا لتأتي صيغة الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية على النحو الآتي:

 “1) يشترط في صحة عقد الزواج حضور شاهدين، عدلين، سامعين في مجلس واحد، الإيجاب والقبول، من الزوج أو نائبه، ومن الولي بعد موافقة الزوجة وتفويضها.

2) لابد من تسمية مهر الزوجة، ولا يجوز العقد على إسقاطه.

3) يجوز للقاضي بصفة استثنائية- سماع دعوى الزوجية واعتماد البينة الشرعية في إثباتها.” ([16])

فكما هو ملاحظ فإن البند الأخير الذي يعتبر استثناء عن القاعدة المنصوص عليها في البند الأول جاء منسجما من النظرة الاجتماعية التي كانت سائدة حين تم وضع مدونة الأحوال الشخصية، فهي بذلك جاءت لتلبي بالأساس حاجيات واقع المجتمع المغربي الذي كان لا يولي– ولازال كذلك في العديد من المناطق المغربية خاصة النائية بل وحتى في الحاضرة- أهمية قصوى لشكلية الكتابة. ونظرا لتغلغل هذا السلوك الاجتماعي– الذي لا يتنافى مع قيم التشريع الإسلامي وكذا المواثيق الدولية التي تجعل هذا الأمر خاضعا لطبيعة الأنظمة الداخلية لكل دولة على حدى – كان من الأجدر أن يعمل التشريع على مراجعة ما قرره في البند الأول، حتى يتمكن من خلق الانسجام والترابط بينه وبين الواقع الذي جاء منظما له.

ورغم مرور حوالي نصف قرن على سن مدونة الأحوال الشخصية، إلا أن النظرة الاستباقية التي تبناها المشرع بخصوص توثيق ميثاق الزوجية وما ينبغي أن يكون عليه من تنظيم، لم تكلل بالنجاح ولم تصل إلى المدى المنشود. ذلك أن الواقع وما يتشبث به من قيم دينية وعرفية عبَّر عن صلابة لا مثيل لها وعن صمود لا نظير له أمام ما يفرضه النص التشريعي من تنظيم. لذلك لم تجد مدونة الأسرة التي صدرت سنة 2004 بديلا عن إقرار الاستثناء الذي سبق أن أقرته مدونة الأحوال الشخصية إلا أنها ربطت تفعيل هذا الاستثناء بمدة من الزمن وهو الأمر الذي يستشف من مضمون المادة 16 التي جاء فيها:” تعتبر وثيقة الزواج الوسيلة المقبولة لإثبات الزواج. ([17])

إذا حالت أسباب قاهرة دون توثيق العقد في وقته، تعتمد المحكمة في سماع دعوى الزوجية سائر وسائل الإثبات وكذا الخبرة.

تأخذ المحكمة بعين الاعتبار وهي تنظر في دعوى الزوجية وجود أطفال أو حمل ناتج عن العلاقة الزوجية، وما إذا رفعت الدعوى في حياة الزوجين.

يعمل بسماع دعوى الزوجية في فترة انتقالية لا تتعدى خمس سنوات، ابتداء من تاريخ دخول هذا القانون حيز التنفيذ.” ([18])

و الفرق الجوهري بين ما هو منصوص عليه في مدونة الأحول الشخصية ومع ما هو منصوص عليه في مدونة الاسرة هو؛ أن هذه الأخيرة ربطت سماع دعوى الزوجية  ([19]) بمدة محددة. الأمر الذي يفسر على أن القاعدة المذكورة تحكم فقط التصرفات والوقائع التي وقعت بين بدأ سريان تلك المدة وبين تاريخ انتهاء العمل بها. وهو ما يجعل القاعدة المذكورة في محك حقيقي أمام المقتضيات الدستورية التي تعطي من جهة؛ لكل المواطنين والمواطنات الحق في الولوج الى القضاء دون تميز بين هذا وذاك، ومن جهة أخرى تمنع من سريان القانون بأثر رجعي على الوقائع والتصرفات السابقة لهذه القاعدة، وهما أمران تعصف بهما القاعدة المذكورة بدون أدنى شك. فهي تعصف؛ بحق الزيجات التي أنشئت على وجه صحيح قبل دخول مقتضيات هذه المادة حيز التنفيذ والتي لم تتمكن من توثيق علاقتها الزوجية، كما تعصف بحق المساواة بين المواطنين في الولوج إلى مرفق القضاء ([20]).

وبالإضافة إلى كل ما ذكر فالمغاربة أَلِفوا وتعودا وتربوا على أن الزواج محاط بسياج النظرة الشرعية التي تؤيده العديد من الأعراف التي تبناها المغاربة في هذا الشأن، والمشرع الأسري ذاته قد تبنى هذا المفهوم من خلال العديد من أحكامه التشريعية إذ نصت المادة العاشرة من مدونة الأسرة على أنه :”ينعقد الزواج بإيجاب من أحد المتعاقدين و قبول من الآخر…” وما يستفاد من هذا المقتضى هو أن المدونة نفسها بموجب هذه المادة اعتبرت الزواج قائما بمجرد تراضي طرفيه وقبل توثيقه، كما زكت هذا الطرح من خلال مقتضيات أخرى لعل أهمها ما نصت عليه في المادة 156 ([21]) التي اكتفت بضرورة توفر ما هو منصوص عليه في المادة العاشرة التي أسلفنا ذكرها.

المطلب الثاني: توثيق الزواج بين التصور الاجتماعي والعمل القضائي

سنتناول في هذا المطلب أمرين هامين؛ الأمر الأول يتمحور حول التصور الاجتماعي لمسألة توثيق الزواج، أما الأمر الثاني فيتعلق بدراسة كيفية توفيق القضاء بين الواقع الاجتماعي – الذي يفرض نفسه بقوة كما سبق أن رأينا على مختلف الفاعلين سواء كان هذا الفاعل فقها أو تشريعا- وبين مختلف الأحكام التي تضمنتها مدونة الأسرة. وسنعالج هذه النقطة الأخيرة من خلال الوقوف على ما ورد في حيثيات القرار عدد 358/1 الصادر عن محكمة النقض الذي أخذناه نموذجا في هذه الدراسة.

الفقرة الأولى: المقاربة الاجتماعية لتوثيق الزواج استمرار للنظرة الفقهية

لقد أبان التطور التاريخي لهذا الموضوع على أن التوجه نحو جعل الكتابة – سواء تعلقت بالانعقاد أو الإثبات – من الشكليات التي يخضع لها ميثاق الزوجية، كان في صلب تفكير المشرع منذ أن شرع في صياغة التشريع الأسري على شكل مواد، وهو ما عبرت عنه الصياغة التي قدمتها وزارة العدل آنذاك، إلا أن الواقع وما يضمره من أعراف وتقاليد، أرخى بظلاله ليدفع بمشرع المدونة نحو إقرار مقتضى يوافق واقع المتجمع المغربي، وإن كانت الغاية من وراء  ذلك المقتضى مجرد استثناء يعمل به إلى حين تعود المغاربة على توثيق زيجاتهم وتعميم العدول المنتظمين لتلقي طلبات الإشهاد على تلك الزيجات في كل ربوع المملكة. غير أن التجربة العملية أبانت على أن عدم كتابة عقد الزواج ليس مبرره هو عدم وجود العدول المنتظمين لتلقي الإشهاد على الزواج، إذ الواقع يخالف هذا التفسير بشكل تام. فالعديد من الحالات التي تم توثيقها كانت في المناطق الحضرية الكبرى وهو ما أفصحت عنه التجربة العملية ([22]). ولعل التفسير الحقيقي والأمثل لهذا الأمر يرجع إلى تواتر المواطنين على الاكتفاء بشهرة الزواج([23]) وإعلانه بإقامة حفل خاص بذلك، وإشاعة خبره وذيوعه، فتجد الكل يردد أن فلان زوج فلانة وأن فلانة زوجة فلان، بل لا تجد من ينكر تلك العلاقة، ناهيك عن النظرة التي قد يحاط بها كل منهما في حالة ما إذا قام بأفعال تتنافى مع ما تقتضيه مؤسسة الزواج وما تعارف عليه أهل تلك المنطقة بخصوص المعاشرة بالمعروف بين الأزواج.

فهذه النظرة الاجتماعية لمؤسسة الزواج وكيفية بناءها، لم تدفع بالمشرع إلى اقرار حالة “الاستثناء” التي هي موضوع حديثنا فقط؛ بل كان لها دور كبير في توسع القضاء في الأخذ بالمبررات الموجبة لسماع دعوى ثبوت الزوجية.

فقد ذهب القضاء في العديد من قراراته إلى اعتبار أن استحكام العادة وتغلغلها وجهل الناس بتوثيق عقد الزواج سببا من أسباب سماع دعوى  ثبوت الزوجية فقد جاء في القرار عدد 111 المتعلق بحكم استئنافي أثبت الزوجية بلفيف معللا قضاءه بأن : ” جل سكان البادية وحتى البعض من الحاضرة يستغنون عن إحضار العدول اكتفاء بالجماعة، وإن الإشادة بالزواج وشهرته تكفي، وإن مرد ذلك إلى العادة التي استحكمت في نفوسهم سواء من بقي بالبادية أو نزع إلى الحاضرة، وإن المشرع المغربي عندما أجاز سماع البينة اعتبر ما استحكم في نفوس المغاربة، واعتبر الحفاظ على الأسرة من التصدع طبقا للفقرة الثالثة من الفصل الخامس من المدونة”([24]).  وهذه النظرة هي التي دفعت بمدونة الأسرة إلى إقرار نفس المقتضى الذي عوض إلى حد ما مقتضيات الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية، وإن كانت المدة التي حددها المشرع قد انصرمت، فالعمل بسماع دعوى الزوجية لن يتوقف، حسب وجهة نظرنا، وذلك لسببين؛

السبب الأول يتعلق بالحلول التي تقدمها مدونة الأسرة من خلال باقي موادها، إذ يمكن تجاوز عقبة المادة 16 من مدونة الأسرة بما قررته المادة 400 من نفس المدونة التي نصت على أنه: ” كل ما لم يرد به نص في هذه المدونة، يرجع فيه إلى المذهب المالكي والاجتهاد الذي يراعى فيه تحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف”.

وأما السبب الثاني فهو استمرار عادة عدم توثيق الزواج بالكتابة إذ لا زالت طلبات سماع دعوى ثبوت الزوجية تعرض على القضاء وهو ما يدل عليه العمل القضائي في الآونة الأخيرة ([25]).

إن قوة التصور الاجتماعي بشأن الزواج و ما يتعلق به – وهو تصور أصبح مستحكما في تصرفات الأفراد- دفعت بالعديد من شراح مدونة الأسرة الى انتقاد الصياغة التشريعية للمادة 16 من مدونة الأسرة، إذ تمت الدعوة – و هي دعوة محمودة على الرغم من أن مدونة الأسرة في نظرنا لا تحتاج إلى تعديل في هذا الصدد و إنما تحتاج إلى قراءة متكاملة لنصوصها- إلى تبني قاعدة الاستثناء بالصيغة التي وردت في الفصل الخامس من مدونة الأحوال الشخصية باعتبار تلك الصياغة أكثر توفقا في استيعاب واقع المجتمع المغربي الذي يرى أن عقد الزواج عقدا محاطا بسياج النظرة الشرعية كما سبق التأكيد على ذلك هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهو ميثاق محكوم بنظرة اجتماعية مستحكمة وأن إقرار أي حكم تشريعي يتغاضى عن هذين المعطيين قد تنجم عنه آثار وخيمة لا تحمد عقباها ([26]).  

الفقرة الثانية: إثبات الزوجية على ضوء العمل القضائي من الشكلانية إلى المقاربة الموضوعية

في مستهل هذه الفقرة من الضروري التنبيه إلى أن ما ورد في الفقرات السابقة من هذا المقال لا يعد خروجا عن الموضوع الذي نود طرحه، والذي يتمثل في البحث عن مدى إمكانية وجود تناسق بين الأحكام القضائية وبين النظرة الاجتماعية التي أخذنا مسألة توثيق الزوجية نموذجا لمناقشتها، في ظل غياب نظرة تشريعية واضحة للمسألة المذكورة إذ ما ذكرناه يعد عاملا مؤسسا لهذا الموضوع. فقد كان من اللازم وضع التصور الاجتماعي للمسألة ثم البحث عن تمثلها في النظرية الفقهية خاصة الفقه المالكي وكذا امتدادها التشريعي.

وقد وقفنا على أن المغاربة تشبعوا بأحكام الفقه المالكي الذي تجلى كل حرسه في مراعاة ما تقوم به الزوجية الصحيحة، إذ كانت شرعية العلاقة القائمة بين الرجل والمرأة مبتغا تلك الأحكام. فكانت النظرة الشرعية متناغمة كل التناغم مع النظرة الاجتماعية. وما لاحظناه هو أن المشرع حاول إيجاد بديل لهذه النظرة السائدة. وقد زعم أن الدافع وراء ذلك هو ضمان الحقوق وعدم ضياعها وقطع الطريق أمام أولئك الأزواج الذين لا يتمتعون بأقل قدر من المسؤولية ولا يجدون حرجا في التنكر لفلذات كبدهم ولزوجاتهم. فسار أمر إعادة النظر في تنظيم مسألة ميثاق الزوجية مطلبا ملحا.

ورغم المحاولات التشريعية فقد آلت كلها إلى الفشل. ليجد القضاء نفسه أمام محك حقيقي للحسم في المسألة وقول كلمة الفصل. وهو ما عبر عنه القرار الصادر عن محكمة النقض تحت عدد 358/1 في الملف الشرعي عدد 372/2/1/2022، والذي اتخذناه نموذجا لتدعيم الفكرة التي ندافع عنها في هذا المقال. لكن قبل تفصيل الحديث بشأن هذا القرار، فإنه أمام غياب نص واضح يقر حكما للمسألة المعروضة ومن دون شك بات القضاء شأنه شأن التشريع محتارا في الخيار بين سلوك هذا المسلك أو ذاك إلى إن استقر به الحال فيما استقر عليه في قرارنا هذا. فهو لم يستقر على ما استقر عليه عبثا، بل قدر الأمور وقرأ الواقع وعرفه حق المعرفة واطلع على ما يختزنه هذا الواقع فكان حكمه متناغما كل التناغم مع انتظارات الأسرة المغربية. وكيف لا يمكن أن يعرف ذلك وهو الذي تعامل ولا زال يتعامل مع كم هائل من القضايا من ذات النوع وذات الصنف! لذلك ليس من المجدي أن يدعي أحد أن ما ذهبت إليه محكمة النقض في قرارها المذكور مجرد زلة أو مجرد قرار يتعلق بنازلة مرت ولن تعاد.

ونعود إلى القرار المستشهد به: فقد دارت حيثياته حول زوجان تقدما أمام المحكمة الابتدائية قسم قضاء الأسرة بمراكش بمقال ادعى فيه أنهما متزوجان منذ سنة 2007 وأنهما لم يوثقا زواجهما لظروف حالت دون ذلك ملتمسين من المحكمة تصحيح ذلك الوضع وذلك بالحكم بثبوت الزوجية منذ يناير 2007 إلى الآن، وهو الطلب الذي استجابت له المحكمة الابتدائية. إلا أن النيابة العامة لم تستسغ الحكم فاستأنفته لعلة أن العمل توقف بمقتضيات المادة 16 من مدونة الأسرة ابتداء من تاريخ 25/02/2019 وهو الطلب الذي استجابت له محكمة الاستئناف التي قضت بعدم قبول الدعوى للعلل المذكورة. وهو القرار الذي كان محل طعن بالنقض أفضى إلى نقضه من طرف محكمة النقض مع إحالته على نفس المحكمة للبت فيه من جديد بهيئة أخرى طبقا للقانون.

فمن خلال الاطلاع على قرار محكمة النقض يتبين أنه صدر في استحضار تام لمجموعة من الأحكام التي يمكن استخلاصها وحصرها في الآتي:

  • بالنظر إلى النازلة التي عرضت على محكمة النقض نجدها قد وقعت سنة 2007، وهي الفترة التي كانت فيها مقتضيات المادة 16 سارية المفعول الشيء الذي اعتبرته محكمة النقض خرقا لمقتضيات المادة المذكورة إذ جاء في قرارها “حيث صح ما عابه الطاعنان على القرار، ذلك أنه وطبقا للمادة 16 من مدونة الأسرة يجوز سماع دعوى الزوجية واعتماد … والمحكمة المصدرة للقرار لما عللت ما قضت به من عدم قبول طلب الطاعنين بأن أجل تقديمها بتاريخ 14/08/2021 أي خارج فترة التمديد يجعلها غير مؤسسة على قانون، والحال أن الزواج المدعى به يعود لسنة 2007 الذي كانت وقته الفترة الانتقالية ما تزال سارية المفعول والتي لم تنته إلا في 05/02/2019، فإنها بذلك خرقت المادة 16 المذكورة”. وما يلاحظ في هذا الصدد أن النقاشات التي أعقبت صدور هذا القرار ركزت على هذه الحيثية دون الالتفات إلى باقي الحيثيات التي يتشكل منها مجمل القرار، ما جعل تلك القراءات نلقصة عن درجة الاعتبار، من وجهة نظرنا، لأنها أغفلت التطرق لمجموع الحيثيات التي اعتمدتها محكمة النقض في ذات القرار من أجل فهم سليم للتوجه الذي سارت فيه هاته الأخيرة. ما يدفعنا إلى القول بأن ما شاب تلك القراءات عيب خطير يتعلق بكيفية فهمنا لآليات بناء الحكم أو القرار القضائي بصفة عامة، إذ من شأن هذه القراءات غير المتكاملة تحريف مضمون الحكم أو القرار كيفما كان وفهمه على نحو لا يحتمله القرار ذاته ([27]).
  • –         إن القرار الصادر عن محكمة النقض لم يتوقف عند حدود المدة الزمنية المشمولة بالمقتضيات المتعلقة بدعوى ثبوت الزوجية الواردة أحكامها في المادة 16 من مدونة الأسرة؛ بل نظر إلى الحالة في جميع افتراضاتها – سواء الحالات التي قد تقع خلال الفترة المشمولة بدعوى سماع الزوجية وأو تلك التي تقع بعد انقضاء تلك الفترة – وهي نقطة في غاية الأهمية. إذ وهي تعالج النقط القانونية المثارة أمامها لم تذهب في تصورها إلى وضع حل يتعلق فقط بحالة معينة في حد ذاتها، بل تجاوزت ذلك حيث قدمت تأويلا قانونيا متكاملا لنصوص المدونة ولم تجزأ مضامين هاته الأخيرة، وهو الأمر الذي يمكن استخلاصه مما ورد في القرار الذي جاء فيه:” ثم إنه حتى على فرض انتهاء الفترة الانتقالية، ودونما وجود نص يحدد تاريخ سماع دعوى الزوجية يرجع حينئذ للنظر فيها، طبقا للمادة 400 من مدونة الأسرة…”.
  • اعتبار محكمة النقض مسألة سماع دعوى الزوجية بعد انتهاء الفترة الانتقالية، من المسائل التي لم يرد بشأنها نص في مدونة الأسرة. وهو الأمر الذي يستدعي الرجوع الى الأحكام الفقهية التي استقر عليها فقهاء المالكية، التي سبق لنا وأن أشرنا لها عملا بمقتضيات المادة 400 من مدونة الأسرة. وتستخلص هذه الفكرة من منطوق القرار الذي جاء فيه: ” … يرجع حينئذ للنظر فيها، طبقا للمادة 400 من مدونة الأسرة إلى المذهب المالكي، والاجتهاد القضائي الذي يراعى فيه تحقيق قيم العدل والمساواة والمعاشرة بالمعروف، ولما لم تعتمد المادة 400 المذكورة فإنها قد خرقت القانون وعرضت قرارها للنقض”.

إن القرار الصادر عن محكمة النقض والذي سقناه في هذا المقال كنموذج عمل قضائي، يشكل انعطافة  مهمة بخصوص مقاربة القضاء لقضية تتعلق بثبوت الزوجية. فقد عبر القرار المذكور عن تفكير عميق نتج عنه إخراج قرار سليم من حيث توافقه مع نسق التفكير الاجتماعي الذي ما فتئ يتشبث بجل ما قرره فقهاء المالكية، كما قدم لنا درسا تطبيقيا عن كيفية التعامل السليم مع بنود مدونة الأسرة.

خاتمة

إن ما يمكن التأكيد عليه كختام لهذا الموضوع، هو أن القضاء المغربي كما سبق التأكيد على ذلك عبر ولا زال يعبر على براعة هائلة في تعامله مع النوازل عموما، خاصة تلك التي تعتم فيها الرؤية التشريعية، وما النموذج الذي سقناه في هذا المقال إلا مثال على ذلك.

وما يستفاد من مسألة دعوى ثبوت الزوجية التي اتخذناها نموذجا في دراستنا هذه، هو الحاجة إلى عنصر بشري مؤهل قادر على قراءة بنود القانونية قراءة تكاملية وعلى استنباط الأحكام استنباطا سليما مع مراعاة الفلسفة التي حكمت واضعي مدونة الأسرة. وهي المسألة التي راعها بدون أدنى شك القرار الصادر عن محكمة النقض، من خلال انتهاج قراءة متكاملة كانت سبيلا ناجعا للاهتداء إلى الحل الأمثل الذي يتوافق مع التصور الاجتماعي كما بينا، وذلك في ظل سيادة القراءات التجزيئية لمضامين بنود مدونة الأسرة ما يؤدي إلى نظرة يطبعها القصور وعدم النضج. وبذلك مهما تدخل المشرع بقواعد جديدة إلا وزاد الإشكال عمقا، لأن المشكلة ليست بمشكلة نص بقدر ما هي مشكلة عدم التمكن من آليات التعامل مع النصوص التشريعية وفهمها. ليبقى موضوع إدراك آليات التعامل مع الدرس القانوني بصفة عامة يستدعي بذل الكثير من الجهد لدراسة كنهه وحقيقته.


[1]) أنظر على سبيل المثال :

  • أبي العباس أحمد بن يحي الونشريسي؛ المعيار المعرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، الجزء الثالث والرابع، الطبعة الأولى، 1981.
  • عيسى بن علي الحسين العلمي؛ كتاب النوازل، الجزء الأول، 1983.
  • أبي عبد الله سيدي محمد المهدي ابن محمد بن محمد بن الخضر الوزاني الشريف العمراني الحسني، المعروف بالمهدي الوزاني؛ النوال الصغرى المسماة المنح السامية في النوازل الفقهية، و المعروفة بالمعيار الصغير، الجزء الثاني، 1992.

[2] )” يقصد بما جرى به العمل الأخذ بقول ضعيف، أو شاذ، في مقابل الراجح، أو المشهور لمصلحة أو ضرورة ، أو عرف أو غير ذلك من الأسس.

او هو اختيار قول ضعيف ، و الحكم ، و الافتاء به، و تمالؤ الحكم و المفتين بعد اخياره على العمل به لسبب اقتضى ذلك” ينظر هذا التعريف لدى :

  • عمر بن عبد الكريم الجيدي؛ العرف و العمل في المذهب المالكي و مفهومهما لدى علماء المغرب، 1984، ص 342.

ولقد عرف العمل أيضا بكونه: ” هو حكم القضاة في نازلة من النوازل مقلدين لقول ضعيف مخالفين للمشهور أو الراجح لأمر اقتضاه، مع استمرار القضاء عليه، و عمل القضاة به.” ينظر هذا التعريف لدى : عبد الكبير العلوي المدغيري ؛ ما جرى به العمل نموذج من تراثنا القضائي، أقليت هذه المداخلة بين يدي المغفور له جلالة الملك الحسن الثاني ، في شهر رمضان عام 1416 الموافق لـ: 26 يناير سنة 1996، برحاب القصر الملكي العامر بالرباط، ص 26 على صيغة pdf ، منشور في موقع : خزانة الفقيه | ما جرى به العمل نموذج من تراثنا القضائي (feqhbook.com) ، ساعة وتاريخ الولوج الى الموقع، 15h11  / 08-08-2022.

[3]) للتوسع أكثر في ما جري به العمل وموقف الفقهاء منه أنظر :

  • عبد السلام العسري؛ نظرية الأخذ بما جرى به العمل في المغرب في إطار المذهب المالكي، طبعة 1996، ص 249.
  • إدريس غازي؛ نيل الأمل في تأصيل ما جرى به العمل، الجزء الأول، مقال منشور على الموقع الالكتروني للرابطة المحمدية لعلماء المغرب نيل الأمل في تأصيل ما جرى به العمل (الجزء 1) – بوابة الرابطة المحمدية للعلماء (arrabita.ma)، ساعة وتاريخ الولوج: 15h03  / 08-08-2022.
  • فؤاد محمد أبو عود؛ مصطلح ما جرى به العمل عند المالكية حقيقته و ضوابطه.
  • عمر بن عبد الكريم الجيدي؛ مرجع سابق، ص 263 وما يليها.
  • عبد الفتاح الزنيفي ؛ مصطلح ما جرى به العمل و أثره على تغير الفتوى في المدرسة المالكية بالمغرب الاسلامي؛ طبعة 2010.

[4])ينص الفصل 107 من الدستور المغربي الحالي على الآتي: ” السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية.
الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية.”

[5] ) أحمد الخمليشي؛ من مدونة الأحوال الشخصية الى مدونة الأسرة، الجزء الأول، طبعة 2012، ص 251.

[6] ) قال ابن رشد اتفق ابو حنيفة والشافعي ومالك : على أن الشهادة من شرط النكاح واختلفوا هل هي شرط تمام يؤمر به عند الدخول أو شرط صحة يؤمر به عند العقد، و لقد اعزى سبب هذا الخلاف الى جهة النظر للشهادة، فمن اعتبرها شرط تمام اعتبر المقصود منها سد الذريعة والاختلاف أو الانكار (كقول مالك ومن وافقه)، ومن عده حكما شرعيا قال أن الشهادة شرط صحة ( المذهب الحنبلي) انظر:

  • أبي الوليد محمد بن محمد أحمد بن محمد بن رشد الحفيد؛ بداية المجتهد و نهاية المقتصد، الجزء الثالث، الطبعة الاولى، 1415، ص 35.
  • برهان الدين أبي الوفاء إبراهيم ابن الامام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن فرحون؛ الجزء الأول، ط 2007، ص 179.

[7] ) يقول ابن جزي الغرناطي ” ولا تجب في العقد، وتجب في الدخول. وهي شرط كمال في العقد، وشرط جواز في الدخول…” انظر:

  • محمد احمد بن جزي الغرناطي؛ القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية و التنبيه على مذهب الشافعية و الحنفية و الحنبلية، الطبعة الأولى، 2013، ص 339.
  • أبي الوليد هشام بن عبد الله بن هاشم؛ مرجع سابق، ص 20.

[8] ) بل ذهب مالك إلى عدم اقرار الزواج الذي تم بحضور الشهود، و اللذين أتمروا بعدم افشاء خبره فقال ابن المواز في كتابه قال مالك : و من نكح بشهود و استكتمهم، فهو من نكاح السر و يفسخ بطلقة إن بنى” انظر:

  • أب محمد عبد الله بن عبد الرحمان أبي زيد القيراوني؛ النوادر و الزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، تحقيق محمد حجي، الجزء الرابع، الطبعة الأولى، ص 565.

[9] ) شرح ابن الناظم لتحفة الحكام لابن عاصم الغرناطي، دراسة وتحقيق مع المقارنة مع المذاهب الاسلامية الأخرى، ابراهيم عبد سعود الجنابي، الجزء الثاني، الطبعة الأولى، 2013، ص 647.

[10] ) أبي الوليد هشام بن عبد الله بن هاشم؛ المفيد للحكام فيما يعرض لهم من نوازل الأحكام، تحقيق احمد بن عبد الكريم نجيب، الجزء الثاني ، الطبعة الأولى، 2012، ص 20.

[11] ) انظر شرح هذا البيت عند : اليزناسني أحمد بن عبد الله العبد؛ وشي المعاصم في شرح تحفة ابن عاصم، مخطوط موجود بمكتبة جامعة الملك سعود قسم المخطوطات، ص 49.

[12] ) يقصد بالحضرة : المدينة. و يقصد بالكور: القرى.

[13] ) شرح ابن الناظم لتحفة الحكام لابن عاصم الغرناطي، مرجع سابق، ص 648.

  • عيسى بن علي الحسيني العلمي؛ مرجع سابق، ص 47 و ما يليها.

[14] ) شرح ابن الناظم لتحفة الحكام لابن عاصم الغرناطي، مرجع سابق، ص 649.

[15] ) أبو محمد عبد الله بن فتوح الفهري؛ الوثائق المجموعة، تحقيق عبد العزيز الحاتمي، الجزء الأول، الطبعة الأولى، 2012، ص 177.

[16] ) انظر تحليل هذا الفصل بشكل مستفيض لدى:

  • عبد المجيد غميجة؛ موقف المجلس الأعلى من ثانية القانون والفقه في مسائل الأحوال الشخصية، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون، انجزها تحت اشراف الاستاذ أحمد الخميلشي، نوقشت بتاريخ 29 يوليوز 2000، برحاب جامعة محمد الخامس –اكدال-، ص 67 و ما يليها نااا.

[17] ) وما يستشف من هذا المقتضى هو أن المشرع الأسري لم يجعل الكتابة ركنا في عقد الزواج، و إنما جعله وسيلة من الوسائل التي يمكن اثبات الزواج بها، إذا يكفي صدور الايجاب والقبول من الزوجين لانعقاد الزواج كما تدل على ذلك المادة العاشرة من المدونة التي نصت على أن الزواج: ينعقد بإيجاب من أحد المتعقدين و قبول من الآخر… و ليس في هذه المادة وغيرها من مواد مدونة الأسرة ما يدل على أن الكتابة ركن من أركان الزواج و لا شرطا للإثبات.

[18] ) و معلوم أن هذه المدة قد تم تمديدها لفترتين لنفس المدة التي نصت عليها المدونة في نصها الأول و قد انتهت آخرها في الخامس من فبراير 2019 ليصل مجموع المدة التي اعمل فيها بما أطلق عليه بسماع دعوى الزوجية خمسة عشر سنة، و لم يتدخل المشرع بعد لتمديد هذه المدة رغم عدم الوصول الى الهدف المنشود ألا و هو القضاء بصفة مطلقة على ما يعرف بزواج الفاتحة الذي لازال راسخا في اعراف العديد من المناطق المغربية، و الطلبات التي لازال المواطنون يتقدمون بها أمام القضاء خير دليل على استمرار هذا العرف.

[19]) وهنا لابد من الاشارة الى أن الحكم الذي تصدره المحكمة بشان طلب سماع دعوى الزوجية هو حكم كاشف لا حكما منشئا، ذلك أن العلاقة الزوجية التي يبت فيها هي علاقة قائمة وثابتة مادام ذلك الزواج قد توفرت اركانه، و كل ما في الأمر هو أن تلك العلاقة لم توثق بطريق التوثيق التي تطلبها التشريع، وحاصل القول أن عقد الزواج قد يتحصل توثيقه عن طريق الاشهاد لدى عدلين منتصبين لتلقي الشهادة بصفة نظامية و الطريق الثاني هو اثباته عن طريق استصدرا حكم قضائي في حالة حصول مانع حال دون توثيقه.

  • عادل حاميدي؛ ثبوت الزوجية بين حقيقة الاستثناء وواجب التيسير واستشراء التحايل، مقال منشور في الموقع الالكتروني، ماروك دروا ، ساعة و تاريخ الولوج للموقع 11h50 ( 09-20-2021)، ص 5 في صيغة pdf.

[20] ) عبد الحكيم الحكماوي؛ دعوى ثبوت الزوجية المأزق التشريعي و البديل المقترح، أنظر هذا المقال في الرابط الآتي، ‫دعوى ثبوت الزوجية المأزق التشريعي و البديل المقترح | Facebook، تاريخ و ساعة الولوج ، 13h45/ 10-08-2022.

[21]) تنص المادة 156 من مدونة الأسرة على الآتي:” إذا تمت الخطوبة، و حصل الايجاب و القبول و حالت ظروف قاهرة دون توثيق عقد الزواج و ظهر حمل بالمخطوبة، ينسب للخاطب للشبهة إذا توافرت الشروط التالية: …”

[22] ) القرار عدد 600 الصادر بتاريخ 30-04-1985، صادر عن غرفة الأحوال الشخصية و الميراث بالمجلس الأعلى، منشور بمجموعة قرارات المجلس الأعلى في مادة الأحوال الشخصية، الجزء الثاني ، 1993، ص 5.

  • انظر تعليق الاستاذ محمد الكشبور على هذا القرار ( القرار 600)؛ مجلة المحاكم المغربية ، العدد الثاني و الخمسون، ص 61 وما بعدها.
  • القرار عدد 611 الصادر بتاريخ 13 يونيو 1983، مجلة قضاء المجلس الأعلى، العددين 35 و36، ص 135.
  • القرار عدد 697، الصادر بتاريخ 07 يونيو 1994، مجلة المحامي، العددين 25-26، ص 38.

[23] ) وهو ما تبناه العمل القضائي من خلال القرار عدد 633 الصادر بتاريخ 15-11-2006 في الملف الشرعي عدد 160-2-1-2006، منشور في ملجة القضاء المدني، قضايا الأسرة واشكالات راهنة ومقاربات متعددة ، الجزء الثاني ، ص 244 وما يليها. والذي جاء فيه ” والمحكمة كانت على صواب لما بحثت في وجود الزوجية لترتيب آثارها ومنها النفقة والنسب، ومن جهة أخرى فإن المحكمة قدرت موجب الزوجية المستدل به وثبت لها أنه يتوفر على عناصر الزوجية واجرت بحثا مع بعض الشهود  واستخلصت منه أن الطرفين تبادلا الرضا بالزوجية منذ سنة 1994، وعلى صداق مسمى وولي معروف هو والد الزوجة، وأقاما حفل زفاف حضره الناس و التحقت بعد ذلك ببيت الزوجية، معتبرة من تحقق الشهرة في النكاح قيام علاقة زوجية صحيحة …”

[24]) قرار اورده أحمد الخمليشي؛ التعليق على قانون الأحوال الشخصية ، مرجع سابق، ص 169 و لقد ايد المجلس الأعلى هذا القرار بموجب قراره عدد الصادر بتاريخ 5 ماي 1975 ، قضية عدد 49575 ، انظر نفس المرجع، ص 170.

انظر قرارات اخرى بنت تعليلها على نفس التعليل الذي أوردناه في المتن، تمت الاشارة اليها من طرف أحمد الخمليشي، نفس المرجع، ص 168.

  • القرار عدد 29 ، صارد بتاريخ 28 يناير 1975، قضية عدد 45546.
  • القرار عدد 193، الصادر بتاريخ 8 يوليوز 1975.

[25] ) الحكم عدد 1910، الصادر بتاريخ 27-09-2021 في الملف عدد 991-1611-2021، قسم قضاء الاسرة، المحكمة الابتدائية بمراكش، حكم غير منشور.

[26] ) الحسين الموس؛ مدونة الأسرة في ضوء تقييد المباح ( الأهلية- التعدد- الطلاق)، مطبعة النجاح ، الطبعة الأولى ، 2015، ص 85.

  • محمد الأزهر؛ شرح مدونة الأسرة، مطبعة النجاح، الطبعة الثامنة، 2017، ص 67.

و في مقابل هذا الرأي الذي يتبنى فكرة ،ضرورة مراعاة النظرة الاجتماعية، نجد رأيا آخر يميل الى نقد هذا التوجه ويدعوا الى محاربة الزمن  ذلك بالدعوة الى تبني كل ما هو جديد، إذ يعارض هذا التيار حتى فكرة وضع الاستثناء و ذلك بخلق قطيعة مع زمن العرف والعادات وجعل شرط الكتابة في الزواج يرتقي الى مصاف الركن الذي لا يكون العقد إلا بوجوده، كما أقر ذلك المشرع التونسي من خلال المجلة التونسية للأحوال الشخصية.

  • وهو الأمر الذي تبناه الاستاذ الخمليشي في تحليله لمضمون المادة 16 من مدونة الأسرة حيث علق عليها بقوله إن ” المادة 16 صريحة في اشتراط شكلية التوثيق، و اعتبار هذه الشكلية ركنا في العقد يترتب عن الإخلال بها عدم الاعتراف بالوجود القانون للعقد“. أحمد الخمليشي؛ من مدونة الأحوال الشخصية إلى مدونة الأسرة ، مرجع سابق، ص 264 و ما يليها.
  • خديجة البوهالي؛ أثر الاثبات في ضوء مدونة الأسرة – دراسة مقارنة بقوانين الأسرة لدول المغرب العربي، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية و الاقتصادية و الاجتماعية، جامعة مولاي اسماعيل مكناس ، نوقشت برسم السنة الجامعية 2016-2017 ، ص 54 و ما يليها.

[27] ) في شأن منهجية قراءة قرارات محكمة النقض أنظر ما كتبه عبد الحكيم الحكماوي؛ كيف نقرأ قرار محكمة النقض؟ قراءة أخرى في قرار محكمة النقض عدد 331 حول التعدد، مقال منشور في موقع ماروك دروا. ساعة الولوج 22h42 بتاريخ 09-08-2022.