المسؤولية الجنائية لحامل الفيروس

27 مايو 2020
المسؤولية الجنائية لحامل الفيروس

المسؤولية الجنائية لحامل الفيروس

  لا شك أن كل من يقدم على انتهاك القانون عامة، والإجراءات الاحترازية والوقائية للحد من تفشي وباء كورونا خاصة، يتحمل تبعية عمله ويخضع للجزاء الذي يقرره القانون، فالجاني وقد اقترف الجريمة يكون قد وضع نفسه في مواجهة مع المجتمع بخروجه عن دائرة حقه في استعمال حريته، مما يخول للدولة الرد عليه بتوقيع الجزاء الجنائي، بوصفها ممثلة للمجتمع.

ومنه لما كانت المسؤولية الجنائية من أهم المسائل التي ينبني عليها إنزال العقاب بالجاني، حيث لا يكفي أن يقوم الشخص بارتكاب الفعل المادي المكون للجريمة حتى يمكن معاقبته، وإنما يجب أن يتوافر خطأ معين يتم بإرادة آثمة، لان توافر الركن المعنوي في الجريمة هو أساس إمكانية مساءلة مرتكبها جنائيا.

كما أن تحديد أساس المسؤولية الجنائية أمر مهم، إذ يمكن بناءا على ذلك تحديد الشروط الواجب توافرها في من يسأل جنائيا عن فعله، لذلك فقد اختلف الفقه في تحديد أساس المسؤولية الجنائية، بحسب المدارس العقابية المتبعة، فعند اتباع المدرسة التقليدية فإن المسؤولية الجنائية تقوم على وجود الإرادة المعتبرة قانونا، والتي لا تكون كذلك إلا إذا صدرت عن إنسان يتمتع بالإدراك والتمييز، وغير مكره على إتيان الفعل أو الترك، ويترتب على ذلك أن أساس المسؤولية الجنائية عندهم هو الخطأ، والمسؤولية حينئذ تكون أخلاقية أو أدبية على اعتبار أن الإنسان مادام قادرا على الاختيار بين الخير أو الشر ، فإن هو اختار الطريق الأخير أي طريق الجريمة بحرية كاملة ومدرك لتصرفاته، فإنه يكونه قد أخطأ وقامت بالتالي مسؤوليته الأخلاقية وبالتبعية الجنائية، أما إن كان مرتكب الفعل أو الترك أثناءه غير مدرك كالجنون، أو فاقد للتمييز كصغير السن، أو مكرها، فإنه لا يمكن مساءلته من الناحية الجنائية لأنه غير مخطئ وبالتالي غير مسؤول أخلاقيا.

إذ أن المبدأ في القوانين الجنائية المقارنة التي قدر لنا الاطلاع عليها هو إقامة المسؤولية الجنائية على أساس أخلاقي، أي على الخطأ، بحيث نجدها تشترط للمساءلة الجنائية أن يكون الإنسان مميزا ومدركا للأفعال والتروك التي يقوم بها، وأن يكون كذلك كامل الإرادة، أي مختارا لها غير مكره أو مجبر على إتيانها، أما إذا فقد الإنسان إدراكه أو كان غير مميز، أو انتفت إرادته، امتنعت مساءلته الجنائية كليا، في حين إذا نقص عنده الإدراك أو التمييز أو الإرادة، فإن مسؤوليته الجنائية لا تنتفي كليا، وإنما تخفف بنسبة النقص الحاصل له في إدراكه أو تمييزه أو إرادته.

لذلك فالمسؤولية الجنائية تترتب عن كل عمل أو امتناع يجرمه المشرع الجنائي ويعاقب عليه بنص من النصوص، على اعتبار أن الإمساك عن العمل أو إتيانه يلحق الضرر بالمجتمع بكامله، فهي إذن ذلك الأثر القانوني المترتب عن الجريمة كواقعة قانونية، وتقوم على أساس تحمل الفاعل للجزاء الذي تفرضه القواعد القانونية الجنائية بسبب خرقه للأحكام التي تقررها هذه القواعد.

والإنسان وحده هو الذي يمكن مساءلته جنائيا، لأنه بعد تطور استمر حقبة طويلة من الزمن ظهر في القوانين المقارنة مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية الذي أخد به المشرع المغربي بدوره، ومفاده أن المسؤولية الجنائية لا تطال إلا الذي ارتكب شخصيا إحدى الوقائع التي عددها المشرع الجنائي في الفصل 132 من القانون الجنائي، فالقاتل مثلا وحده هو من يسأل عن ارتكابه لجريمة القتل العمد دون زوجته أو أحد أقاربه، على اعتبار أن المسؤولية الجنائية مسؤولية شخصية، لكن فمشرعنا المغربي وكما هو مقرر بالنص أورد عدة استثناءات نص عليها القانون صراحة، حيث أقر بمقتضاه نوعا آخر من المسؤولية الجنائية غير الشخصية التي يسأل فيها الشخص عن أفعال غيره.

ومن المؤكد أن وباء كورونا قد انتشر في العالم بأسره حاصدا أرواح آلاف البشر ولا يعلم مرساه ومجراه وخطورة هذا المرض، كونه فيروس سريع الانتشار ويتفشى كالنار في الهشيم، إذ ينتقل للمخالطين من المريض لأهون السباب، كما أنه حتى الآن لم ينتج أي علاج أو مصل له، ولهذا فإن أهم إجراء طبي في الوقت الحالي هو عزل المصاب في مكان أمين لكف أذاه عن المحيطين به، ومحاولة إنقاذ المريض نفسه.

لذلك فقد أثار فيروس كورونا المستجد العديد من التساؤلات منذ الإعلان عنه حول مسؤولية حامل الفيروس في نقل العدوى إلى الغير، أو محاولة أي شخص دخول مناطق أخرى محضور عليه دخولها التزاما بإجراءات حالة الطوارئ الصحية المعلن عنها، وهو يعلم علم اليقين إصابته بالمرض، فيصاب أحد أطراف الأسرة بالعدوى نتيجة هذا الفيروس الفتاك، ورغم علمه بالإصابة يخفي الأمر عن أهله ويباشر حياته الطبيعية، فينتقل الفيروس إلى أسرته مما يؤدي إلى الوفاة.

إضافة إلى ذلك فقد يكون حامل الفيروس يجهل واقعة أنه ضحية هذا الفيروس لقوة مناعته الطبيعية، فيخرق حالة الطوارئ الصحية وينتقل إلى مكان آخر به أهله فيجتمع معهم بكامل حريته دون عزله في مكان بعيد عنهم، مما يؤدي إلى إصابتهم بهذا الوباء دون علم مسبق له.

أولا: المسؤولية الجنائية الناشئة عن نقل فيروس كورونا عمدا

من المؤكد أنه لا يوجد في القانون المغربي، أي نص جنائي يحدد المسؤولية الجنائية المترتبة عن نقل فيروس كورونا المستجد، على خلاف أغلب القوانين في دول العالم التي سبق لها أن جرمت نقل العدوى عمدا، ولكن في بعض الدول لا يوجد أي نص قانوني واضح يعاقب على نقل العدوى عمدا بحد ذاته، ومن تم فإننا سنتناول هذه المسؤولية من خلال بيان القواعد العامة للجريمة، مع بيان العقوبات التي وضعتها الدول المقارنة في حق حامل الفيروس نتيجة إلحاق العدوى عمدا بالغير.

  1. الشروط الواجب توافرها في جريمة نقل فيروس كورونا إلى الغير

  من الطبيعي أن الشروط المسبقة في جريمة نقل العدوى تعتبر من المقومات الأساسية التي لا قيام للجريمة بدونها، فهي تعبر عن حالة واقعية أو قانونية يحميها القانون، فالشروط المسبقة بهذا المعنى تقابل المركز القانوني الذي سيقت القاعدة الجنائية من أجل حمايته.

ويتمثل الشرط المسبق في جريمة نقل فيروس كورونا المستجد إلى الغير في اشتراط صفة معينة في الجاني، وهو أن يكون حاملا لفيروس كورونا، إذ تعد هذه الصفة شرطا لازما لوقوع الجريمة، وبدونها تنتفي المسؤولية الجنائية عن الفعل المرتكب.

وبناءا على ما سبق، فإن قيام شخص سليم لا يحمل فيروس كورونا بنقل هذا الفيروس إلى شخص آخر، لا تتوافر في حقه المسؤولية الجنائية عن جريمة نقل فيروس كورونا إلى الغير، وذلك لعدم توافر صفة الإصابة بفيروس كورونا المستجد لديه، وإن كان يمكن عقابه طبقا للقواعد العامة، الأمر الذي يحتم وضع نصوص جنائية تعاقب كذلك تعمد النقل من أي شخص سواء كان مصابا بفيروس كورونا أو غير مصاب به، حتى لا يؤدي إلى إفلات مرتكبي فعل النقل من العقاب بحجة أنهم غير مصابين.

  1. الركن المعنوي لجريمة نقل عدوى فيروس كورونا إلى الغير وتكييفها القانوني

  لا يكون كافيا للمساءلة عن نشاط يعتبر جريمة من الناحية القانونية، أن يأتي الفاعل ماديا هذا النشاط، بل لابد أيضا من توافر الركن المعنوي الذي يسند معنويا الجريمة إليه، وهو يتوافر إذا قام الخطأ في هذه الحالة بالقصد الجنائي، أو العمد، وإما غير متعمد، فيسمى حينئذ بالخطأ غير العمد.

فالقصد الجنائي كما يعرفه الفقيه أبو الفتوح هو القوة النفسية التي تقف وراء النشاط المجرم الذي استهدف به الفاعل إراديا الاعتداء على مصلحة من المصالح المحمية من طرف المشرع الجنائي، ذلك أن الجريمة التي تتحقق في الواقع بسبب نشاط الفاعل ماهي إلا محصلة لما خالج نفسه قبل تنفيذه ماديا لها، فالمصاب مثلا بفيروس كورونا يريد الاعتداء على عدوه عن طريق نقل العدوى إليه، وهذه الإرادة هي التي دفعته إلى مواقعة المجني عليه بالحيلة.

وبالتالي لا يقوم القصد الجنائي عند الفاعل مالم يوجه إرادته إلى تحقيق الواقعة المكونة للجريمة، ونحو ذلك أن يصمم أحد المصابين على نقل العدوى إلى شخص آخر لعداوة به، أو لأي سبب آخر، فيجتمع معه قصد نقل العدوى إليه، ففي هذه الصورة فإن الجاني قد وجه إرادته إلى نقل العدوى إلى المجني عليه، وبذلك توافر لديه القصد الجنائي.

لكن فتوجيه إرادة الجاني نحو تحقيق الوقائع المكونة للجريمة، لا يكون كافيا بحد ذاته لتحقق العمد أو القصد الجنائي عنده قانونا، وإنما زيادة على ذلك أن يكون محيطا بتلك الوقائع إحاطة تامة، ولا تكون هذه الإحاطة كذلك، مالم يعلم بكل عناصر الجريمة، واقعية كانت هذه العناصر أو قانونية، ومعنى هذا أن القصد الجنائي لدى الفاعل ينتفي مبدئيا إذا وجه إرادته نحو تحقيق الوقائع المكونة للجريمة ولكن عن جهل أو غلط في أحد عناصرها، سواء من الناحية المادية أو القانونية.

وفي إحدى الوقائع التي حصلت في مصر عام 1989 من قبل أحد الأشخاص الذي كان مصابا بمرض الإيدز، حيث كان محجوزا بأحد القطاعات المخصصة لمرضى الإيدز في مستشفى حميات العباسية، وفي أحد الأيام تفاجأ أحد أفراد الشرطة المسؤول عن حراسة القاعة التي بها المصابون، قيام أحد هؤلاء المرضى بالتسلل من خلال إحدى فتحات سياج المستشفى، والوصول إلى الشارع العام، فلما طلب منه الحارس العودة إلى مكانه رفض ذلك، مما أدى إلى أن يقترب المريض المصاب من رجل الشرطة رافعا يده ومحاولة احتضانه قصد نقل العدوى إليه، مما اضطر الحارس إلى إطلاق النار عليه قبل محاولة احتضانه، فأراده قتيلا دفاعا عن نفسه، ومنع المواطنين الاقتراب إليه، ولما عرض الأمر على القضاء صدر القرار بالأوجه لإقامة الدعوى ضد الشرطي حيث جاء في حيثيات الحكم….وحيث أن المتوفى كان مصابا بمرض الإيدز وأنه ترك المستشفى دون تصريح من وزارة الصحة وأن الحارس حاول إقناعه بالعودة إلى المستشفى…إلا أن المجني عليه اقترب من المتهم وحاول احتضانه لأجل نقل العدوى إليه، مما اضطر رجل الشرطة إلى إطلاق النار عليه تفاديا للخطر الذي سوف يلحق به، من أثر احتضانه بإصابته بالعدوى، خاصة وأن المعلوم لدى الشخص العادي أن العدوى بهذا المرض الخطير تتحقق بالملامسة للمريض الذي يحمل الفيروس.

وفي فرنسا حيث كان المتهم إريك أندر مصابا بمرض الإيدز حيث تعمد الاتصال جنسيا بثلاث فتيات، حيث تم فعلا الاتصال الجنسي بهن، ونقل العدوى إليهن، ولما قدم إلى المحاكمة حكمت عليه إحدى المحاكم الفرنسية بالسجن لمدة عشر سنوات.

ب. التكييف القانوني لفعل حامل الفيروس بنقل العدوى للغير عمدا

   على الرغم من خطورة عدوى فيروس كورونا على المجتمع من النواحي الاجتماعية والصحية والاقتصادية، وعدم وجود علاج حاسم له لحد الآن، والتكاليف التي تتكبدها الدولة في مواجهة هذا الوباء الخطير، لحد الآن فإن أغلب التشريعات الجنائية تقف دور المتفرج دون إصدار نصوص تتضمن عقوبات حاسمة لمكافحة العدوى التي تتم عن قصد لهذا المرض الفتاك.

ومنه يرى جانب من الفقه الفرنسي أن نقل العدوى إلى الغير عن قصد يقع تحت طائلة جناية التسميم، ويدعمون قولهم بأن نقل الفيروس عمدا تتوافر به كافة شروط جناية التسميم المادية والمعنوية التي تنص عليها المادة 310 من قانون العقوبات الفرنسي، حيث تنص هذه المادة على أنه يعتبر تسميما كل اعتداء على حياة شخص بتأثير جواهر من شأنها إحداث الموت عاجلا أم آجلا أيا كانت الطريقة اليتي استعملت بها أو أعطيت بها هذه الجواهر وأيا كانت النتائج التي تترتب عن ذلك.

والعلة من تشديد العقوبة في حالة استخدام مادة السم بالقتل، تكون كذلك متوافرة في حالة التعمد بنقل العدوى، وذلك من حيث سهولة القيام به، وإنه يمكن أن يتم بصورة خفية حيث لا يستطيع المجني عليه أن يدافع عن نفسه، وأن هذا الأسلوب “أي التعمد بنقل الفيروس” يتصف بالغدر من شخص يثق به، بحيث يصعب إثباته.

لكن هذا الجانب من الفقه قد تناسى فعلا أن محكمة النقض الفرنسية قد اعتبرت تسميما كل اعتداء على حياة شخص ليس فقط باستخدام مواد سامة، ولكن أيضا باستخدام مواد أخرى يمكن أن تؤدي إلى الموت، كما قضت بذلك محكمة النقض الفرنسية بالإدانة عن جريمة التسميم في حال تطعيم شخص بفيروس التيفود.

أما القصد الجنائي فهو متوافر أيضا، لأن التسميم لا يكون إلا عمديا، ويتحقق ذلك إذا كان الفاعل يعلم أنه مصاب أو أنه حامل للفيروس، ثم يتصل جنسيا بالغير عن علم وإرادة بقصد نقل العدوى إليه.

أما بالنسبة لمشرعنا المغربي فقد اعتبر جريمة التسميم من جرائم الخطر، وليس من جرام النتيجة، حيث نص في فصله 398 من القانون الجنائي المغربي على أنه من اعتدى على حياة شخص بواسطة مواد من شأنها أن تسبب الموت عاجلا أم آجلا، أيا كانت الطريقة التي استعملت، أو أعطيت بها تلك المواد، وأيا كانت النتيجة، يعد مرتكبا لجريمة التسميم ويعاقب بالإعدام، إذ لا شك أن العلة في تشديد العقوبة هي خطورة الجاني، وغالبا ما تكون هذه المخادعة استغلالا ماكرا لقرابة أو صداقة تجمع بينهما.

ومن جانبي كباحث في العلوم الجنائية أرى أن النقل العمدي لفيروس كورونا بالذات إلى الغير قد يقع تحت طائلة جريمة القتل العمد، بحسب توافر قصد القتل من عدمه.

ومن جانبي كباحث في العلوم الجنائية أرى أن النقل العمدي لفيروس كورونا بالذات إلى الغير قد يقع تحت طائلة جريمة القتل العمد، بحسب توافر قصد القتل من عدمه، فالقتل العمد هو إزهاق روح إنسان حي بفعل شخص قصد إحداثه، حيث نص المشرع المغربي في فصله 392 من القانون الجنائي، أن كل من تسبب عمدا في قتل غيره يعد قاتلا ويعاقب بالسجن المؤبد، ويتضح من خلال هذا المقتضى أن جريمة القتل العمد يشترط لقيامها ركن مادي يتمثل في صدور سلوك من الجاني اتجاه المجني عليه يكون سببا مباشرا في إزهاق روح المجني عليه، علما أن الأفعال التي من شأنها إحداث الموت لا تقع تحت الحصر، وهكذا نكون بصدد السلوك المكون لجريمة القتل في حالة نقل شخص لمرض معد إلى آخر طالما كان هذا المرض كافيا لإحداث النتيجة وهي الوفاة، ذلك أنه إذا كانت العدوى بهذا المرض من شأنها أن تؤدي إلى الوفاة وفقا لمجريات الأمور، فلا يوجد ما يمنع قانونا من صلاحية هذه الوسيلة للقتل باعتبار أن سلوك القتل إنما يتحدد في شكله القانوني بمدى فاعلية السببية لإحداث النتيجة، وهذا هو الحال بالنسبة لفيروس كورونا الذي يدمر جهاز مناعة الإنسان الذي ينتقل إليه، فيجعله غير قادر على مقاومة الأمراض المعدية التي تهدد الجسم.

وطبقا للقواعد العامة فإن عبئ إثبات وفاة المجني عليه يقع على عاتق النيابة العامة باعتبار الوفاة عنصرا في الركن المادي لجريمة القتل.

ولا يشترط حصول الوفاة عقب السلوك الإجرامي مباشرة، وإنما قد يتحقق ذلك إثر النشاط وقد يتراخى تحققه زمنا، كما هو الأمر بالنسبة لحامل الفيروس الذي تعمد نقل العدوى إلى الغير.

كما أن جريمة القتل العمد تتطلب لقيامها وجود القصد الجنائي المكون من العلم والإرادة، أي يجب أن يكون الجاني عالما على نحو أكيد أنه يحمل فيروس كورونا وأنه مدرك على أنه ينقله إلى إنسان حي، كما يجب أن يكون عالما أن نقل هذا الفيروس يؤدي إلى موت المجني عليه.

لكن فقد شدد المشرع المغربي عقوبة القتل العمد إذا صاحبتها ظروف حددها المشرع على سبيل الحصر، بمعنى أنه إذا كان حامل الفيروس لديه إصرار سابق، ويتربص بعدوه من أجل إلحاق العدوى به، فعقوبته في هذه الحالة هي الإعدام طبقا لنص الفصل 392 من القانون الجنائي المغربي.

ومن هنا نؤكد أنه لابد من تواجد عدة تكييفات يمكن إصباغها على واقعة نقل فيروس كورونا عمدا إلى الشخص السليم، غير أنه تبقى ضرورة تدخل المشرع الجنائي المغربي بالنص على جريمة خاصة تعاقب من يتعمد نقل العدوى إلى الغير حتى لا يفلت الجاني من العقاب، ذلك أن اكتشاف العدوى لدى المجني عليه لا يمكن معرفتها إلا بعد فترة زمنية معينة أي بعد مرور 14 يوما، فضلا على أن الوفاة نفسها قد لا تحدث إلا بعد مدة طويلة، الأمر الذي يصعب معه معرفة مرتكب الجريمة وإقامة الدليل ضده، وهذا راجع إلى تداخل عوامل كثيرة مع فعل الجاني، كما أن الأمر يكون أكثر صعوبة إذا تعدد الأشخاص الدين نقلو العدوى إلى المجني عليه.

ثانيا: المسؤولية الجنائية الناشئة عن نقل فيروس كورونا إلى الغير عن طريق الخطأ وتكييفه القانوني

 

 الحقيقة أنه لا يوجد في التشريع المغربي أي نص خاص يجرم النقل غير العمدي لعدوى فيروس كورونا، ومن تم سنتناول بالتحليل هذه المسؤولية الجنائية من خلال القواعد العامة، وكذا تكييفها القانوني.

1.نقل فيروس كورونا إلى الغير عن طريق الخطأ

  إذا كان الركن المعنوي في الجرائم العمدية يشترط لقيامه توافر القصد الجنائي، الذي يتحقق بتوجيه الجاني إرادته لإتيان النشاط المخالف للقانون الجنائي، وإرادة تحقيق نتيجة معينة من هذا النشاط، فإن الركن المعنوي في الجرائم غير العمدية يتوافر فقط بسلوك خاطئ يأتيه الفاعل عن إرادة، ولكن دون استهداف للنتيجة الجرمية التي قد تترتب عن هذا السلوك.

إذن فالخطأ كما أكد الدكتور عبد الواحد العلمي يتحقق كلما أتى الفاعل سلوكا لم يلتزم فيه بما يلتزم به الكافة من ضرورة مراعاة قدر من اليقظة والتبصر والحرص على الحقوق المحمية قانونا.

وتتعدد الحالات التي ينتقل فيها فيروس كورونا إلى الغير عن طريق الخطأ، فالنقل غير العمدي لهذا الفيروس هو الأكثر شيوعا في مجال العدوى، إذ يكفي أن نشير إلى حالة الشخص الذي يعلم أنه مصاب بفيروس كورونا ولا يتخذ الإجراءات والاحتياطات اللازمة لوقاية غيره من انتقال العدوى إليه، وقد يكون هذا الغير هو زوج المصاب الذي لا يعلم بحالته، كما قد يكون الغير هو المريض الذي يتردد على عيادة طبيب ما، وينتقل إليه الفيروس من هذا الطبيب الذي يحمل الفيروس أو من الممرضة، أو كمن يرى أن علامات المرض تظهر على جسمه ومع ذلك يتصل جنسيا بالغير دون اتخاد الإجراءات اللازمة للوقاية، أو لم يخضع نفسه للتحليلات اللازمة، فالخطأ هنا يتمثل في عدم خضوع المريض للفحوصات الطبية التي تسمح له بمعرفة ما إذا كان حاملا للفيروس أم لا، ففي مثل هذه الحالات لا يجوز للمتهم أن يتمسك بجهله ليتخلص من المسؤولية.

لكن إذا كان جهل المريض بحالته المرضية المعدية ناتجا عن خطأ الغير، فلا مسؤولية على هذا المريض، ومثال على ذلك كأن يخضع المريض للفحوصات والتحليلات اللازمة للكشف عن الإصابة بفيروس كورونا، إلا أن الطبيب لم يخبره بانه مصاب بالفيروس، أو يخبره بطريقة غير مفهومة.

2.التكييف القانوني لنقل عدوى كورونا إلى الغير عن طريق الخطأ

إن الجريمة المنصوص عليها في الفصل 432 من القانون الجنائي المغربي، التي تعاقب على القتل الغير العمدي، تعتبر التكييف القانوني المناسب لفعل الجاني الذي ينقل عدوى وباء كورونا إلى الغير عن طريق الخطأ، حيث تنص المادة 432 من القانون السالف الذكر على أنه من ارتكب بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه أو إهماله أو عدم مراعاته للنظم أو القوانين، قتلا غير عمدي، أو تسبب فيه عن غير قصد، يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات وغرامة من 250 إلى 1000 درهم.

كما نصت المادة 433 من القانون الجنائي المغربي على أنه من تسبب، بعدم تبصره أو عدم احتياطه أو عدم انتباهه، أو إهماله أو عدم مراعاته النظم أو القوانين، في جرح غير عمدي، أو إصابة، أو مرض نتج عن الأشغال الشخصية تزيد مدته على ستة أيام، يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى سنتين، وغرامة من مائتين إلى خمسمائة درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط.

يتبين من هذين النصين أن أركان القتل والإصابة الخطأ، تقومان على ثلاثة أركان أساسية وهي سلوك يتصف بالخطأ، وقتل المجني عليه أو إيذائه، وقيام علاقة السببية بين القتل أو الإيذاء من جانب والخطأ من جانب آخر، ولا أهمية للوسيلة المسببة للوفاة أو الإصابة، فقد تأخذ شكل الإصابة الظاهرة على جسم المجني عليه، أو الإصابة الداخلية، كما قد تكون نتيجة نقل العدوى إلى الغير، وفي هذا السياق فقد قضت المحاكم الفرنسية بإدانة الوالدين عن إصابة خطأ لأنهما عهدا ابنهما إلى مرضعة وهما يعلمان أنه مصاب بمرض الزهري المعدي ويتوقعان أنه قد ينقله إليها وهو ما حدث فعلا.

ومن هنا يجد النقل غير العمدي لفيروس كورونا جذوره في انعدام التبصر أو عدم اتخاذ الاحتياطات من جانب المريض أو من جانب العاملين في الحقل الطبي بمناسبة إجراء العمليات أيا كان نوعها.

ثالثا: أثر المرض النفسي على مسؤولية حامل الفيروس

  لم يتحدث الفقهاء القدامى عن مصطلح المرض النفسي تحديدا، بل تحدثوا عن بعض صوره وحالاته عندما تحدثوا عن الجنون والعته، لكن علماء النفس كان لهم الفضل في إعطاء تعريف محدد بأنه حالة نفسية تصيب تفكير الإنسان أو مشاعره، أو حكمه على الأشياء، أو سلوكه وتصرفاته، إلى حد تستدعي التدخل لرعاية هذا الإنسان، ومعالجته في سبيل مصلحته الخاصة أو مصلحة الآخرين من حوله.

ولقيام المسؤولية الجنائية يشترط وجود الإرادة الحرة عند الفاعل، وهي لا تكون كذلك إلا إذا توافر الإدراك، والتمييز لديه، ومعنى هذا أن المسؤولية الجنائية تتغير بتغير عناصر الإرادة لدى الشخص، وجودا وعدما، وكمالا ونقصا، وعليه يكون مثلا فاقد الإدراك كالجنون، أو التمييز كالصغير، غير ممكن مساءلتهم من الناحية الجنائية، ولكن يكون في المقابل الصبي الذي يتوفر على قدر من التمييز مسؤولا جنائيا، إلا أن هذه المسؤولية ناقصة.

1: المسؤولية المنعدمة

بالرجوع إلى نص الفصل 134 من القانون الجنائي المغربي نجده ينص على أنه لا يكون مسؤولا ويجب الحكم بإعفائه، من كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه في حالة يستحيل عليه معها الإدراك والإرادة نتيجة لخلل في قواه العقلية.

وفي الجنايات والجنح يحكم بالإيداع القضائي في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية وفق الشروط المقررة في الفصل 76 من القانون الجنائي.

أما في مواد المخالفات، فإن الشخص الذي يحكم بإعفائه إذا كان خطرا على النظام العام يسلم إلى السلطة الإدارية.

وهكذا فبالنسبة لحامل الفيروس الذي يكون محجوزا بأحد القطاعات المخصصة لمرضى فيروس كورونا، ويتسلل من المستشفى نتيجة خلل في قواه العقلية، لا يقدر معه الإدراك والإرادة، فيؤدي بفعله إلى نقل العدوى إلى الغير، لا يكون مسؤولا جنائيا، حيث نصت المادة 1ـ122 من القانون الفرنسي أنه ليس مسؤولا جنائيا الشخص الذي كان وقت ارتكابه الجريمة في حالة خلل نفسي أو عصبي نفسي، أفقده التمييز والسيطرة على أفعاله.

ومن خلال ما تقدم يتبين أن مناط رفع المسؤولية الجنائية عن حامل الفيروس الذي يفر من المستشفى، هو ذلك الخلل الذي يصيب ملكاته العقلية والنفسية، فيفقده إدراكه وإرادته، وقد عرف الفقه الإدراك بأنه قدرة الإنسان على فهم ماهية وطبيعة أفعال وتقدير نتائجها من حيث الواقع دون القانون.

بمعنى آخر أن حامل الفيروس المختل عقليا ليست له القدرة على تقدير نتائج أفعاله من حيث اعتبارها صوابا أو خطأ، مما قد ينتج عنها في هذه الحالة الإضرار بالحقوق الاجتماعية التي وفر لها المجتمع حماية جنائية كالحق في الحياة.

في حين أن الإرادة هي كل نشاط نفسي يتجلى في قدرة الإنسان على توجيه نفسه لارتكاب فعل معين أو الامتناع عنه.

والملاحظ أن المشرع المغربي نص على انعدام المسؤولية الجنائية لدى الجانح بمجرد انتفاء أحد العنصرين دون أن يشترط اجتماعهما معا، وهو ما قد يفهم من استعمال المشرع لحرف العطف “أو” في قوله ” يستحيل عليه معها الإدراك أو الإرادة” بمعنى أن القول برفع المسؤولية الجنائية يتحقق بمجرد فقدان أحدهما ولو دون الآخر فقد يفقد الجاني الإدراك لخلل عقلي رغم توجيهه إرادته للفرار من المستشفى والخروج إلى الشارع، أو بالدخول على أسرته لنقل العدوى إليهم.

2: المسؤولية الناقصة لحامل فيروس كورونا المستجد

  لم يغب عن نظر مشرعنا المغربي وعلى غرار باقي التشريعات الجنائية المقارنة التنصيص على حالة المسؤولية الناقصة، حيث جاء في الفصل 135 من القانون الجنائي المغربي، أنه تكون مسؤولية الشخص ناقصة إذا كان وقت ارتكابه الجريمة المنسوبة إليه مصابا بضعف في قواه العقلية من شأنه أن ينقص إدراكه أو إرادته، ويؤدي إلى تنقيص مسؤوليته جزئيا.

وفي الجنايات والجنح تطبق على الجاني العقوبات أو التدابير الوقائية المقررة في الفصل 78، أما في مواد المخالفات فتطبق العقوبات مع مراعاة حالة المتهم العقلية.

غير أن الجدير بالملاحظة في الصيغة التي نص عليها المشرع المغربي للقول بنقصان المسؤولية، هي استعماله لمفاهيم فضفاضة وواسعة يشترك فيها كل من الطب والقانون، لترتيب آثار معينة، ومن ذلك ضعف القوى العقلية ونقصان الإدراك والإرادة، وهي مصطلحات لا تجد لها سندا دقيقا في معجم تصانيف الأمراض العقلية والنفسية، ولا تتطابق مع الخاصيات المرضية وعلم الأمراض الخاصة المتعلقة بالأمراض النفسية، مما يجعلها مثارة حيرة وجدل عند الخبراء الذين يجدون أنفسهم ملزمين بالبحث عن حالات مرضية يكون من خصائصها إنقاص إدراك الشخص وإرادته، وإضعاف قدراته العقلية، استجابة للغاية التي قصدها المشرع وطلب تحققها للقول بنقصان مسؤوليته الجنائية عقب ما لحقه من هبوط وتراجع في بعض وظائفه النفسية نتيجة إصابته باختلالات عقلية تسببت في إنقاص إدراكه وإرادته.

لكن السؤال المطروح الآن هو في حالة ما إذا كان أحد المصابين بفيروس كورونا محجوزا عليه في أحد المستشفيات، لكن لضعف في قواه العقلية قام بخرق تدبير الحجز الموقع عليه، فتسبب بفعله إلى نقل العدوى إلى الغير، فكيف يمكن إثبات هذا الضعف العقلي لدى حامل الفيروس؟

لعل من أهم خاصيات الأمراض النفسية والعقلية التي تنقص المسؤولية هي عدم إلغاء الإدراك والإرادة لدى المصابين بها كليا، وإنما إضعافهما والتشويش على حسن أدائهم وتعاطيهم مع المواقف الحياتية المختلفة، بشكل قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى اختراق ستار الجريمة وارتكابهم لأفعال إنحرافية، ومن هؤلاء نجد المصابين ببعض أنواع الهيستيريا الدين ينقص لديهم الإدراك والإرادة، مما يكون سببا للتخفيف من مسؤوليتهم الجنائية كالمصابين بالهستيريا القلقية التي غالبا ما يظهر بها المصاب بمظهر الشخص العادي الذي يتجاوب بشكل طبيعي مع محيطه الخارجي.

لذا فإثبات ضعف إرادة وإدراك حامل الفيروس هو أمر يرجع إلى متخصصين في علم النفس، أو خبير في الطب النفسي لتقدير إصابته بهذه الاختلالات النفسية من عدمها.

حيث جاء في قرار غرفة الجنايات لدى محكمة الاستئناف بفاس في قرارها عدد 441 الصادر ب تاريخ27/06/2007 في الملف الجنائي عدد67ـ2006: حيث ثبت من تقرير الخبرة الطبية النفسية الذي أنجزه الدكتور تيسير بنخضرا على المتهم د.ع أن مسؤولية المتهم عن الأفعال المنسوبة إليه ناقصة، ويبقى قادرا عن الدفاع عن نفسه بسبب تأثير ميله للتأويل المرضي، مما جعل المحكمة تقتنع باعتباره ناقص المسؤولية وقت ارتكاب الفعل المجرم.

إضافة إلى ذلك، فقد أحال الفصل 135 من ق.ج في حالة ما إذا تعلق الأمر بجناية أو جنحة وثبت للمحكمة أن مرتكب الجريمة وقت ارتكابه لها، يعاني من ضعف في قواه العقلية أنقص لديه الإدراك والإرادة، على تطبيق مقتضيات قانونية معينة نص عليها الفصل 78 من نفس القانون والذي جاء فيه أنه: إذا قررت محكمة الموضوع بعد الخبرة الطبية، أن مرتكب جناية أو جنحة، رغم كونه قادرا على الدفاع عن نفسه في الدعوى إلا أنه كان مصابا وقت الأفعال المنسوبة إليه بضعف في قواه العقلية، يترتب عليه نقص في مسؤوليته، فإنه يجب عليها أن تثبت أن الأفعال المتابع من أجلها المتهم منسوبة إليه بالفعل كما هو الحال بالنسبة لحامل الفيروس الذي يلوذ بالفرار من مقر الحجز والعناية الطبية لتفادي العدوى، وأن تصرح بأن مسؤوليته ناقصة بسبب ضعف في قواه العقلية وقت ارتكابه الفعل” نقل العدوى”، ثم أن تصدر الحكم بالعقوبة، وأن تأمر إذا اقتضى الحال إدخال المحكوم عليه في مؤسسة لعلاج الأمراض العقلية قبل تنفيذ العقوبة السالبة للحرية.

وفي الأخير سأبسط مجموعة من التوصيات التي يمكن الأخذ بها في مجال ردع كل من سولت له نفسه نقل العدوى إلى الغير عمدا كان أم خطأ، والتي تتمثل في أنه:

1ـ يجب على المشرع المغربي أن يتدخل بنصوص في القانون الجنائي، أو القوانين الخاصة التي تقضي بمعاقبة كل شخص ينقل العدوى إلى الغير عمدا أو خطأ.

يجب على كافة الأزواج المغاربة العمل على تطبيق البعد الاجتماعين داخل البيوت وليس فقط في المحيط الخارجي.

3ـ يجب التنصيص على معاقبة المشاركين في إخفاء معلومات شخص مصاب بالفيروس وعدم الإبلاغ عنه والتستر عليه.