المحكمة الإلكترونية كآلية لتقريب الخدمات القضائية وتداعيات مواجهة جائحة وباء كورونا المستجد

29 مايو 2020
 المحكمة الإلكترونية كآلية لتقريب الخدمات القضائية وتداعيات مواجهة جائحة وباء كورونا المستجد

 المحكمة الإلكترونية كآلية لتقريب الخدمات القضائية وتداعيات مواجهة جائحة وباء كورونا المستجد

 مقدمة ˸    

شهد العالم في الآونة الأخيرة ظاهرة انتشار فيروس كورونا كوفيد 19 المعدي، والذي أدى إلى وفاة المئات من البشر وإصابة الملايين من الناس، مما دعا السلطات المختصة إلى إقرار تدابير احترازية وإجراءات موازنة، حفاظا على الأمن الصحي و المجتمعي، و مما لا شك فيه أن هذه الإجراءات الصارمة أثرت على سير مختلف القطاعات و أبرزها  قطاع العدل. بعد صدور قرار لوزير العدل بتعليق الجلسات في مختلف محاكم المملكة، ليتم تبني عملية “التقاضي عن بعد” باعتماد وسائل الاتصال الحديثة، تلبية لحاجتنا اليوم لعدالة رقمية وما تفرضه علينا في إسراع وتيرة تنزيل محكمة إلكترونية تستجيب لمتطلبات العدالة، وقادرة على مواجهة كل التحديات التي قد تعيق المسار التحصيلي للمواطنين في ممارسة حقهم في التقاضي.

ومن هنا تكتسي المحكمة الإلكترونية أهمية قصوى في موضوع ضمان حقوق المواطنين. وعليه، فإن هذا الموضوع يتمحور حول إشكالية رئيسة يمكن صياغتها على النحو التالي˸

ماذا يقصد بالمحكمة الإلكترونية وما هي أهم التجارب الوطنية والمقارنة في التقاضي الإلكتروني؟

وللإجابة عن هذه الإشكالية سنعمل على تقسيم هذا الموضوع إلى مطلبين˸

 المطلب الأول ˸ المحكمة الإلكترونية ومميزاتها

الفقرة الأولى ˸ مفهوم المحكمة الإلكترونية

الفقرة الثانية ˸ مميزات المحكمة الإلكترونية

المطلب الثاني ˸ واقع وآفاق التقاضي الإلكتروني

الفقرة الأولى ˸ التجارب المقارنة في التقاضي الإلكتروني

الفقرة الثانية ˸ واقع التجربة المغربية في المحاكم الإلكترونية

 

المطلب الأول ˸ المحكمة الإلكترونية ومميزاتها
الفقرة الأولى ˸ مفهوم المحكمة الإلكترونية

يمكن تعريف المحكمة الإلكترونية بأنها منهجية جديدة تقوم على استخدام تقنية المعلوميات والاتصال في ممارسة الوظائف الأساسية للمحاكم والإدارة القضائية، بقصد تحسين فعاليتها ونتائجها وكذلك جودة الخدمات المقدمة[1].

كما تعرف المحكمة الإلكترونية (le tribunal électronique) بأنها حيز تقني معلوماتي ثنائي الوجود، يسمح ببرمجة الدعوى الإلكترونية، ويتألف من شبكة الربط الدولية إضافة إلى مبنى المحكمة، بحيث يتيح الظهور المكاني الإلكتروني لوحدات قضائية وإدارية، ويباشر من خلاله مجموعة من القضاة مهمة النظر في الدعاوى، والفصل فيها، بموجب تشريعات تخولهم مباشرة الإجراءات القضائية مع اعتماد الية تقنية فائقة الحداثة لتدوين الإجراءات القضائية، وحفظ وتداول ملفات الدعاوى[2].

الفقرة الثانية ˸ مميزات المحكمة الإلكترونية

يتفق التقاضي الإلكتروني مع التقاضي التقليدي في الموضوع وكذا أطراف الدعوى، لأن كلاهما يروم إلى تمكين الشخص من رفع دعواه أمام المحكمة المختصة قضائيا التي تنظر في النزاع وتصدر حكما بشأنه، ولكنهما يختلفان في طريقة التنفيذ عن طريق الوسيط الإلكتروني. الأمر الذي يجعل التقاضي الإلكتروني يتميز بالعديد من الخصائص وهي كالتالي˸

فعلى مستوى تطوير البرامج المعلوماتية ˸

سيمكن من التدبير الجيد للملفات بما فيها السجل التجاري عبر برنامج السجل التجاري الوطني، والسجل العدلي في إطار برامج الطلبات عبر الأنترنت، وبرنامج إنشاء مقاولات عبر الأنترنت، وإدخال تقنية المراسلات الإدارية بين مختلف محاكم ومصالح الإدارية المركزية، موقع (web)  الخاص بكل محكمة، ومشروع المكتب الافتراضي للمحامي، كلها برامج وتطبيقات ستؤدي دورها في الرفع من جودة العمل القضائي.

كما سيمكن المحامي من الاطلاع وتتبع مآل ملفاتهم وقضاياهم عبر الموقع الإلكتروني للمحكمة، دون إغفال دور القاضي عن بعد في حسن تقديم الخدمات القضائية وتقريبها من زبناء العدالة.

أما على مستوى توفير الوقت والجهد بالنسبة إلى القضاة ˸

ستساهم المحكمة الإلكترونية بادخار نشاط القاضي الذي يهدر كثير منه في تهدئة الخصوم، وسيساعده استخدام التقنيات الحديثة في زيادة عدد الدعاوى التي ينظرها القاضي في اليوم الواحد. كما أن عمل المحكمة الإلكترونية سيسهل عملية تدقيق الدعاوى عبر الاتصال بملف الدعوى عن بعد، وتمكن محاكم الاستئناف والنقض من الدخول إلى ملف الدعوى الأصل عند اللزوم؛ دون أعباء مالية، ولا مراسلات بريدية، ولا تأخير في الرد المطلوب.

كما ستسهم حوسبة التقاضي في جعل سجلات المحكمة أكثر أمنا، لأن الوثائق والمستندات (الورقية) ؛ فمن السهل اكتشاف أي تغيير أو تزوير فيها، بالإضافة إلى سهولة الاطلاع عليها والوصول إليها[3].

المطلب الثاني ˸ واقع وآفاق التقاضي الإلكتروني  
الفقرة الأولى ˸ التجارب المقارنة في التقاضي الإلكتروني

تم تبني نظام المحاكم الإلكترونية من قبل النظم القضائية المقارنة، والتي كان حصيلة جهود كبيرة، حيث ظهرت الصورة الأولى للمحكمة الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية، تحت إشراف مركز القانون وأمن المعلومات وبدعم من جمعية المحكمين الأمريكيين ومعهد قانون القضاء والمركز الوطني لبحوث المعلوماتية الأمريكي سنة 1996. كانت الغاية من ذلك تسوية منازعات التجارة الإلكترونية عن طريق التحكيم الإلكتروني واستخدام برنامج القاضي الافتراضي الذي يقوم بالاستماع إلى الحضور عن طريق البريد الإلكتروني، ويفصل بالنزاع ضمن مهلة اثنتين وسبعين ساعة، ومن ثم تم تعميم هذه التجربة بحيث أضحت المحكمة الإلكترونية معتمدة على نحو واسع في الأنظمة القضائية المتطورة.

لن نستعرض في هذه الفقرة التجارب الأجنبية جميعها، وإنما سنقتصر عن الحديث عن تجربة البرازيل المتميزة، والتي أطلق عليها “بالعدالة على عجلات”.

يقوم النموذج البرازيلي في تطبيق المحكمة الإلكترونية على استخدام برنامج حاسوبي، يعتمد على الذكاء الاصطناعي، يعرف “بالقاضي الإلكتروني”.

يقتصر مجال تطبيق هذا البرنامج على حوادث السير البسيطة، حيث يوجد هذا البرنامج على جهاز حاسوب محمول، يحمله قاض متجول، والهدف منه سرعة المساعدة في تقييم شهادات الشهود، وتمحيص الأدلة بطريقة علمية في مكان وقوع الجريمة، ويعتبر مصمم هذا البرنامج القاضي “فالس فيو روزا” عضو محكمة الاستئناف العليا في ولاية إسبيريتو سانتو، وخضع البرنامج قبل تسويقه لاختبار ثلاثة قضاة في الولاية.

من الناحية العلمية، يطبق البرنامج بعد أن تنبه الشرطة فريق العدالة المحمولة إلى الحوادث الصغيرة التي يتطلب البت فيها، فيصل الفريق إلى موقع الحادث خلال عشر دقائق، وبعد طرح بعض الأسئلة البسيطة من قبل القاضي الإلكتروني مثل “هل توقف السائق عند ظهور الضوء الأحمر؟” و “هل كان السائق متعاطيا للمشروبات الكحولية فوق المعدل الذي حدده القانون؟” وبعد الإجابة عن هذه الأسئلة بنعم أو لا يصدر البرنامج الحكم، كما يعطي البرنامج للقاضي أسباب الحكم مطبوعة جاهزة، وفي حال اختلاف الحكم الذي أصدره البرنامج مع رأي القاضي البشري يمكن تجاوز حكم البرنامج.

ويعتبر هذا البرنامج جزءا من خطة يطلق عليها “العدالة على عجلات”، حيث سيسهم هذا البرنامج الحاسوبي في تسريع البت في دعاوى السير المتراكمة في البرازيل، وذلك بالحكم الفوري في الحالات غير المعقدة[4].

الفقرة الثانية ˸ واقع التجربة المغربية في المحاكم الإلكترونية

لم يتجاهل المغرب التحول الرقمي الذي شهده العالم في مجال الاتصال والتكنولوجيا، حيث كانت المملكة المغربية قد بدأت بخطوات ليست بالهينة في تعزيز بنية التقاضي عن بعد، ونجد وزارة العدل قد أعدت خيار استراتيجي في تحديث الإدارة القضائية من خلال بوابة المحاكم التي تتيح الولوج ومتابعة سير مراحل الملفات والقضايا المدنية والزجرية، وبإمكان المتقاضي الاطلاع على مآل الملفات والقضايا دون الحاجة إلى الانتقال لفضاء المحكمة.

أما في ظل جائحة فيروس كورونا كوفيد 19 التي يشهدها العالم بأسره, فإن وزارة العدل قد أعطت انطلاقها لعملية المحاكمة عن بعد يوم 27 أبريل المنصرم بمختلف الدوائر القضائية لمحاكم المملكة، وذلك كأحد الخيارات الاستراتيجية لمواجهة تداعيات الأزمة الصحية العالمية[5].

الشيء الذي دفع وزارة العدل إلى إعداد مشروع قانون يتعلق باستعمال الوسائط الإلكترونية في الإجراءات القضائية, لتنظيم عملية التقاضي عن بعد, عبر منصة إلكترونية رسمية[6].

ويعتمد نظام المحاكمة عن بعد على أساس تقني متطور للتقاضي عبر اتصال حي، صوتا وصورة، مع المؤسسات السجنية من جهة والقضاة والمحامون في المحكمة من جهة أخرى، لاسيما في الملفات الجنحية المتعلقة بالأشخاص الذين يوجدون في حالة الاعتقال، مع أخذ جميع الاحتياطات المتعلقة باحترام مسافة الأمان وارتداء الكمامات الوقائية[7].

وفي هذا الصدد أعلن المجلس الأعلى للسلطة القضائية أن 5216 معتقلا استفادوا من عملية المحاكمات عن بعد حيث تمت محاكمتهم دون الحاجة إلى نقلهم إلى مقرات المحاكم، تفاديا لكل المخاطر الصحية المحتملة في هذه الظرفية الاستثنائية، كما تم الإفراج عن 225 منهم لأسباب مختلفة[8].

خاتمة ˸

أصبحت المحكمة الإلكترونية (بصورها المختلفة) حقيقة واقعة في عالم يرغب في العمل الجاد والتطوير المستمر، فمراكز التحكيم الإلكتروني، والمحاكم بوسائل إلكترونية نشأت بفضل جهود اكاديمية، ومن مشارب قانونية وتقنية مختلطة، اهتمت جميعها بتطويع التكنولوجيا وإخضاعها للاستخدام العملي بما يتوافق والمستجدات المتواصلة.

وبالرغم من المحاولات التي قامت بها وزارة العدل في هذا المجال، إلا أنها لا ترقى إلى مفهوم المحكمة الإلكترونية التي يتم فيها إعفاء الأطراف والمتقاضين والمحامين من الحضور إلى المحكمة لتقديم مقالاتهم ومذكراتهم، لأن رفع الدعوى في هذا النظام يتم إلكترونيا من دون الحضور الجسدي إلى المحكمة، حيث يتم رفع الدعوى إلكترونيا من خلال الانترنت، عبر نظام إرسال المستندات الإلكترونية، ويتم قبول مستندات القضية بطريقة إلكترونية وسداد الرسوم القضائية وقبولها بواسطة موظف المحكمة المختصة عبر نافذة إلكترونية.

وتبقى المحكمة الإلكترونية مطمحا واستحقاقا وطنيا إلى أن يتم أجرأتها وتنزيلها في أقرب وقت كان، وخاصة أنها تشكل بندًا مهما من البنود المعتمدة من قبل ميثاق إصلاح العدالة الذي تم إطلاقه في 30 يوليوز 2013، والذي جاء في أحد توصياته ˸ ” 9- وضع أسس [محكمة رقمية ] منفتحة على محيطها وعلى المتقاضين…مع سن المقتضيات اللازمة لذلك..”

الإحالات

[1] – المكتب المحلي بمراكش “المحكمة الرقمية والنظم المعلوماتية لوزارة العدل ” عبد الوافي ايكدض.

[2] – مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية، مقال لصفاء أوتاني “المحكمة الإلكترونية” (المفهوم والتطبيق).

[3] – دور محكمة الرقمية في الرفع من جودة أداء المحاكم، مقال ل ذ/ البوكريني عبد الحق.

[4] – مقالة لصفاء أوتاني، مرجع سابق.

[5] – www.2m.ma

[6] – مقال لسعيدة مليح في موقع العمق المغربي.

[7] – محاكم الدائرة الاستئنافية بآسفي تعقد أولى جلسات “المحاكمة عن بعد”.

[8] – ميدي 1 تي في.