العلاقات الجنسية الرضائية بين قاصرين، محاولة في التكييف الجنائي

13 يونيو 2020
العلاقات الجنسية الرضائية بين قاصرين، محاولة في التكييف الجنائي

العلاقات الجنسية الرضائية بين قاصرين، محاولة في التكييف الجنائي

 

مقدمة

إن الأصل في الأشياء هو الإباحة، فحسب هذه القاعدة الفقهية فإن الأصل في كل الموجودات وكل التصرفات التي يمكن أن يقدم عليها الإنسان في مواجهة هذه الموجودات هو الإباحة، و لا ينتقل من الأصل إلى خلاف الأصل إلا بوجود مانع من الشرع السماوي أو التشريع الوضعي يخرج الفعل من دائرة الإباحة و يدخله في دائرة التجريم و التحريم.

وتسري هذه القاعدة على جميع الموجودات إلا شيئا واحدا جعلت الشريعة الإسلامية الأصل فيه المنع والتحريم وهو الفروج، فبناء على قاعدة “الأصل في الفروج التحريم”1 حرمت الشريعة الإسلامية على المكلفين كل فعل ينتهك هذه الحرمة. لكن ، و على اعتبار أن حفظ النسل هو من المقاصد التي تهدف الشريعة الإسلامية إلى حفظها و على اعتبار أن التوالد بين بني آدم هو الوسيلة الطبيعية للحفاظ على وجود النوع البشري أورد الشارع على هذه القاعدة استثناء، بحيث أجاز لكل من الرجل و المرأة الاتصال الجنسي في إطار ضوابط حيث جعل الشرع من عقد الزواج الاستثناء الوحيد على هذه القاعدة و حرم كل أشكال الاتصال الجنسي التي تقع خارج هذا الإطار، و ذلك بناء على قوله تعالى في سورة المؤمنون “وَالَّذِينَ هُمْ لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فَإِنَّهُمْ غير مَلُومِينَ”.

و على اعتبار أن الذين الإسلامي هو دين المملكة المغربية بناء على الفصل الثالث من الدستور المغربي، و على اعتبار أن الدين الإسلامي هو من الثوابت الجامعة التي تستند عليها الأمة في حياتها العامة بناء على الفصل الأول من الدستور، اعتبر المشرع المغربي أن مؤسسة الزواج هي الإطار الوحيد الذي يبيح لكل من الرجل و المرأة ربط علاقة جنسية، و جرم استصحابا للأصل بموجب القانون الجنائي كل اتصال جنسي يحدث بين الرجل و المرأة خارج هذا الإطار بموجب الفرع السادس من الباب الثامن من مجموعة القانون الجنائي2.

و من بين الأفعال المخلة بقاعدة الأصل في الأبضاع التحريم و التي تشكل في نظر القانون الجنائي جريمة، اتفاق الذكر و الأنثى على ممارسة جنسية رضائية خارج إطار الزواج، فهذه الممارسة الجنسية إذا وقعت بين بالغين ستكيف على أساس جريمة الفساد أو الخيانة الزوجية حسب الظروف المحيلة بكل حالة. لكن الممارسة الجنسية  الرضائية غير المشروعة الواقعة بين قاصرين قد تثير إشكال من حيث التكييف الجنائي نظرا لأن الأمر يتعلق  بقاصرين، مما يدفع للتساؤل حول النص الواجب التطبيق هل هو الفصل 490 من القانون الجنائي أم الفصل 484 من القانون الجنائي الذي يجرم كل ممارسة جنسية بغير استعمال للعنف كان أحد أطرافها قاصرا؟ فما هو التكييف الجنائي السليم لهذه الواقعة؟ و هل وجود طرفين قاصرين يسمح بتكييف الفعل على أساس أنه هتك للعرض أم أن الفصل 484 من القانون الجنائي يقتصر على العلاقة التي يكون أحد أطرافها فقط قاصرا؟

إن الإجابة على هذه التساؤلات لها أهمية كبيرة، لأن تحديد الوصف الجنائي السليم للعلاقة الجنسية الرضائية بين القاصرين يرتب مجموعة من الآثار على مستوى قواعد الإثبات و الجزاء التي تختلف بين جريمة الفساد وجريمة هتك العرض .

و سنحاول الإجابة على هذه التساؤلات من خلال مبحثين سنخصص الأول للبحث عن التكييف الجنائي الصحيح للعلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة بين القاصرين،  أما الثاني فسنخصصه للبحث في الآثار المترتبة عن هذا الوصف، و ذلك من خلال إعمال  القواعد اللغوية و المنطقية لتحليل مضمون الفصلين 484 و 490 من القانون الجنائي.

المبحث الأول: الوصف الجنائي للعلاقة الجنسية الرضائية بين القاصرين

من خلال هذا المبحث سنحاول البحث عن الوصف الجنائي السليم للعلاقة الجنسية الرضائية بين القاصرين، و ذلك من خلال إعمال الآليات اللغوية و المنطقية التي ستمكننا من تحديد هل الأمر يتعلق بهتك للعرض ( المطلب الأول) أو بفساد (المطلب الثاني).

المطلب الأول: مدى سلامة تكييف الفعل على أساس هتك العرض

كما هو معلوم فن كل اتصال جنسي غير مشروع بين قاصر وراشد دون استعمال للعنف لا يمكن تكييفه على أساس أنه اتصال جنسي رضائي تحكمه النصوص الجنائية التي شرعها المشرع لتجريم العلاقات الجنسية الرضائية غير المشروعة، لأن هذه النصوص شرعت لتحكم العلاقات التي تجمع الرشداء كاملي الأهلية و التمييز، أما العلاقة التي تجمع  بين راشد و قاصر دون عنف فهي تقوم على استغلال الراشد لنقصان تمييز القاصر قصد التغرير به، و هذا ما أكدته محكمة النقض في قرار صادر عنها والذي أكد على “كون الأنثى حدث لم تبلغ بعد سن الرشد يجعلها غير مكتملة التمييز و بالتالي لا يمكن اعتبارها في إطار علاقة جنسية غير مشروعة إلا ضحية و ليست جانية3″ مما يجعل التكييف الجنائي للفعل هتكا للعرض و ليس فساد.

لكن ماذا لو تعلق الأمر بعلاقة جنسية رضائية غير مشروعة بين قاصرين، هل من السليم تكييف هذا الفعل على أساس هتك العرض؟

الدافع وراء البحث في مدى صحة هذه الفرضية هو أن المشرع قد حدد من خلال الفصل 484 من القانون الجنائي المجرم لهتك العرض دون عنف الطرف الذي يقع عليه النشاط الجنسي المجرم في القاصر سواء كان ذكرا أم أنثى، في المقابل لم يحدد المشرع من خلال الفصل 484 من القانون الجنائي الوضعية القانونية لمرتكب الفعل من حيث كونه راشدا أم قاصر وهذا ما يستفاد من الصياغة المعتمدة في الفصل 484 من القانون الجنائي. فعبارة ” من هتك دون عنف أو حاول هتك عرض” تجعل “من” المستعملة في صياغة الفصل 484 “من” للنكرة الموصوفة في موضوع يختص بالنكرة، مما يجعل المخاطب بالأحكام التشريعية الواردة في الفصل 484 من القانون الجنائي غير معين، فكل من كان خاضعا لأحكام التشريع الجنائي المغربي و ارتكب فعلا مخالفا لأحكام الفصل 484 من  القانون الجنائي يكون مرتكبا لجريمة هتك العرض دون عنف بغض النظر عن كونه راشدا أم قاصرا.

من خلال  طابع العمومية الذي يطبع الفصل 484 من القانون الجنائي يمكن القول بتكييف العلاقة الجنسية الرضائية  غير المشروعة بين القاصرين كجريمة هتك للعرض تخضع من حيث التجريم و العقاب للفصل  484 من القانون الجنائي، و ذلك لانعدام العنف من جهة و لكون النشاط الإجرامي قد ثم بين قاصرين من جهة أخرى، بحيث يكون كل من القاصرين قد ارتكب في مواجهة الأخر جريمة هتك للعرض دون عنف. إلا أن النتيجة التي تم التوصل لها من خلال إعمال القواعد اللغوية لتفسير الفصل 484 من القانون الجنائي تبقى غير سليمة من الناحية القانونية و منافية لإرادة المشرع، لأن المشرع يهدف من وراء تجريمه للأفعال المنصوص عليها في الفصل 484 من القانون الجنائي إلى حماية القاصر من التحايل و الخداع لسهولة التغرير به و المس بمصلحة محمية جنائيا و هي عرض القاصر و لا يستقيم عقلا القول بأن قاصرا قد غرر بقاصر، مما لا يمكن معه حمل معنى “من” الواردة في الفصل 484 من القانون الجنائي إلا على الرشداء.

كما أن التسليم بصحة النتيجة المتوصل لها سلفا يجعل السياسة الجنائية المغربية أكثر تشددا مع القاصرين مقارنة بالراشداء، لأن تكييف هذا الفعل بين القاصرين على أساس أنه هتك للعرض سيجعل هذا الفعل جنحة تأديبية في حين لو ارتكب نفس الفعل بين الرشداء سيكيف الفعل على أساس أنه فساد وهو فعل يشكل في نظر القانون الجنائي جنحة ضبطية، زد على ذلك آثر هذا التكييف على قواعد الإثبات التي ستجعل الفعل قابلا للإثبات بكافة وسائل الإثبات في مواجهة القاصرين، على عكس الرشداء الخاضعين لوسائل الإثبات الحصرية المنصوص عليها في الفصل 493 من القانون الجنائي.

كما تنبهنا هذه الآثار إلى مسألة أخرى مهمة و هي أن اقتصار الباحث على القواعد اللغوية لاستنباط الحكم التشريعي دون مراعاة للقواعد المنطقية و المبادئ القانونية قد يؤدي بالباحث إلى استخلاص نتائج غير سليمة قانونا.

 

المطلب الثاني: مدى جواز تكييف الفعل على أساس الفساد

ينص الفصل 490 من القانون الجنائي على ” كل علاقة جنسية بين رجل و إمرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة فساد و يعاقب عليها بالحبس من شهر واحد إلى سنة”.

فهذا النص دل من حيث منطوقه4 على تجريم كل ممارسة جنسية بين رجل و إمرأة خارج الإطار الشرعي. و بإعمال مفهوم المخالفة5 فإن هذا النص يدل على حكمين مخالفين للمنطوق، الأول هو أن كل اتصال جنسي رضائي بين رجل و امرأة تربط بينهما رابطة الزوجية لا يمكن أن يعتبر جريمة، أما الحكم الثاني فهو  أن كل اتصال جنسي رضائي بين شخصين من نفس الجنس لا يمكن أن يكيف على أنه فساد لأن اختلاف جنس الفاعلين شرط لازم في التكييف، ففي حالة اتحاد جنس الفاعلين فإن النص الواجب التطبيق هو الفصل 489 من القانون الجنائي الذي يجرم و يعاقب كل شخص ارتكب فعلا من أفعال الشذوذ الجنسي مع شخص من نفس جنسه بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاثة سنوات و غرامة من 200 إلى 1000درهم.

فهل يجوز تطبيق الفصل 490 من القانون الجنائي على العلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة بين قاصرين من جنسين مختلفين، أم أن الفصل 490 من القانون الجنائي خاص بالرشداء فقط؟

للإجابة عل هذا السؤال لابد من تحديد دلالة كل من لفظ الرجل و المرأة الوارد في الفصل 490 من القانون الجنائي، فبالرجوع للوضع اللغوي فالعرب وضعت لفظ الرجل و المرأة للدلالة على الذكر البالغ من بني آدم بالنسبة للفظ الرجل و للدلالة على الأنثى البالغة من بني أدم بالنسبة للفظ المرأة. فحسب الوضع اللغوي لا يصح استعمال لفظ الرجل و المرأة إلا للدلالة على الذكر و الأنثى البالغين من بني آدم.

وقد سبق لمحكمة النقض أن اعتمدت التفسير اللغوي للفظ المرأة الوارد في الفصل 490 من القانون الجنائي، حيث ذهبت محكمة النقض في أحد القرارات الصادرة عنها إلى أن ” الفصل 490 من القانون الجنائي ينص على أن كل علاقة جنسية بين رجل و امرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة فساد، و أنه بمقتضى هذا الفصل فإن الركن المادي لجريمة الفساد لا ينهض بالنسبة للأنثى إلا إذا كانت امرأة، أي بالغة لسن الرشد الجنائي ومارست في حدود هذا السن العلاقة الجنسية غير الشرعية مع غيرها من الذكور، أما و أنها حدثة لم تبلغ بعد السن المذكور فإن المشرع اعتبرها غير مكتملة التمييز و إنها ضحية في إطار مقتضيات الفصل 484  من القانون الجنائي المتعلق بهتك عرض قاصر يقل سنه عن ثمانية عشر سنة دون عنف، فلا يمكن اعتبار الفاعلة إلا ضحية و ليست جانية”6.

لكن هذا التفسير صدر عن محكمة النقض في إطار علاقة جنسية رضائية بين قاصر و راشد دون عنف، فلا يمكن اعتماده في حالة قيام علاقة جنسية رضائية غير مشروعة بين قاصرين لأن الاعتماد على الدلالة اللغوية للفظ الرجل و المرأة يرتب آثار قانونية مهمة تتمثل في عدم إمكانية تكييف العلاقة الجنسية الرضائية بين قاصرين على أساس الفساد، لأن لفظ الرجل و المرأة لا ينطبق على غير البالغين.

لذلك لابد من البحث عن دلالة لفظ الرجل و المرأة خارج الوضع اللغوي، وهو ما سيمكننا من الإجابة عن سؤال مهم وهو: ما المقصود من لفظ الرجل و المرأة الوارد في الفصل 490 من القانون الجنائي هل هو المعنى اللغوي أو المعنى التداولي؟

بداية يجب معنى الدلالة التداولية للألفاظ، فالتداولية – تسمى أيضا بالبرغماتية – حسب عالم اللغويات George Yule تهتم بدراسة المعنى المراد من الألفاظ من قبل المتخاطبين عوض المعنى اللغوي الذي تحمله هذه الألفاظ7. أي أن التداولية تدرس اللغة بوصفها ظاهرة تخاطبية واجتماعية في الوقت نفسه، ففي إطار تحديد الدلالة التداولية للفظ يجب الأخذ بعين الإعتبار العلاقة بين المبنى اللغوي و المخاطبين و سياق التخاطب. فالدلالة التداولية للفلظ الرجل و المرأة لا تعني الذكر و الأنثى البالغين من بني آدم، بل يتم استعمال هذا اللفظ للدلالة على الذكر و الأنثى من بني آدم دون اعتبار لمسألة البلوغ، فعندما نقرأ مثلا على يافطة صالون للحلاقة أن هذا الصالون هو مخصص لحلاقة الرجال فهل نفهم من المعنى المراد من لفظ “الرجال” المعنى اللغوي أم التداولي؟ الجواب أن المعنى الذي نفهمه من لفظ “الرجل” هو أن الخدمات التي يقدمها هذا المحل تقتصر على الذكور بغض النظر عن كونهم بالغين أم ليسوا بالغين، أي أن المعنى الذي يستقر في أذهاننا هو المعنى التداولي للفظ و ليس معناه اللغوي.

و حيث إن الحقيقة تترك بدلالة العرف و العادة، لأن الاستعمال و التعارف يجعل إطلاق اللفظ على ما تعورف استعماله فيه حقيقة بالنسبة إلى المستعملين، ويجعل إطلاقه على معناه الوضعي  الأصلي في نظرهم مجازا 8، أي إذا أصبح المعنى الحقيقي للفظ مهجورًا عادة وعرفًا، وشاع استعماله في معنًى آخرَ لا يراد بالكلام المعنى الحقيقي، فحينئذ تترك الحقيقة؛ لأن العادة قرينة مانعة من إرادة المعنى الحقيقي. و حيث إن القاعدة القانونية هي قاعدة اجتماعية، و إن واضع  القاعدة القانونية هو جزء من المجتمع، و على اعتبار علاقة التأثير و التأثر المتبادلة بين القانون و المجتمع، فإن تفسير لفظ الرجل و المرأة يجب أن يتم في إطار معناه التداولي و ليس  في إطار معناه اللغوي. كما أن استعمال لفظ الرجل و المرأة من طرف المشرع في الفصل 490 من القانون الجنائي كان من أجل إقامة تمييز بين العلاقات الجنسية الرضائية غير المشروعة المطابقة للفطرة البشرية و التي تجمع الذكر بالأنثى، و تلك التي تخالف الفطرة البشرية و تجمع بين شخصين من نفس الجنس.

و بناء على ما سبق يمكننا أن نجيب على السؤال المتعلق بالمعنى المقصود في لفظ التشريع بأن المعنى المقصود هو التداولي للفظ الرجل و المرأة وليس المعنى اللغوي.  فالوصول إلى هذا الجواب يمكننا من حل الإشكال الذي يشكل محور هذا البحث، فمن خلال ما سبق نخلص إلى أن النص الواجب التطبيق على العلاقة الجنسية الرضائية  غير المشروعة بين القاصرين هو الفصل 490 من القانون الجنائي الذي يجرم و يعاقب على الفساد.

و بما أننا توصلنا للنص القانوني الواجب التطبيق يكون من الممكن البحث في العناصر اللازم توفرها في العلاقة الجنسية الرضائية  غير المشروعة بين القاصرين  حتى تعد في نظر القانون الجنائي جريمة فساد.

فالمشرع يعتبر من خلال الفصل 490 من القانون الجنائي كل علاقة جنسية بين رجل و امرأة لا تربط بينهما علاقة زواج فساد، فما معنى العلاقة الجنسية حسب الفصل 490 من القانون الجنائي؟ هل الأمر يشمل كل أشكال الاتصال الجنسي أم يقتصر على المواقعة؟ و ما معنى علاقة الزوجية الواردة في الفصل 490 من القانون الجنائي ؟

يرى بعض الباحثين9 أن الركن المادي لجريمة الفساد يتحقق بمواقعة رجل لامرأة دون أن يكونا مرتبطين بعلاقة زوجية و ذلك بإدخال الرجل لعضوه التناسلي في فرج المرأة، فحسب هذا الاتجاه فإن كل اتصال جنسي بين رجل و امرأة لا تربط بينهما رابطة الزوجية ولا يتخذ شكل إيلاج لا يعد ركنا ماديا في جريمة الفساد، و لا يقدم هذا الاتجاه أي دليل يعلل و يعزز حصره للركن المادي لجريمة الفساد في المواقعة.

لكن، و من خلال القراءة المتأنية للفصل 490 من القانون الجنائي يمكن تحديد مفهوم العلاقة الجنسية الوارد في الفصل 490 من القانون الجنائي في كل اتصال جنسي بين رجل امرأة لا تربط بينهما رابطة الزوجية سواء اتخذ شكل مواقعة أو أي فعل يحقق لكل من أطراف العلاقة لذة جنسية، و يمكن تعليل هذا التفسير بالحجج الأتية:

– أولا: القرار عدد 3/1431 الصادر عن محكمة النقض في الملف الجنائي 2017/3//6/21974 بتاريخ 17/10/2018

حيث اعتبرت محكمة النقض أن تبادل الزوجة للقبل مع رجل أجنبي عنها يشكل ركنا ماديا لجريمة الخيانة الزوجية، حيث لم تحصر محكمة النقض الركن المادي لجريمة الخيانة الزوجية في المواقعة.

ولعل هذه الحجة المعتمدة لتعليل تفسير مفهوم العلاقة الجنسية الوارد في الفصل 490 من القانون الجنائي قد يرد عليها بأن تفسير محكمة النقض قد جاء في إطار الركن المادي لجريمة الخيانة الزوجية و ليس جريمة الفساد، لكن يمكن الرد على هذا الرأي بأن الركن المادي لجريمة الخيانة الزوجية و الفساد متحد الذي يتغير هو صفة مرتكب الفعل الإجرامي.

ثانيا: حصر الركن المادي لجريمة الفساد في المواقعة مناف لإرادة المشرع

اتجهت إرادة المشرع من خلال تجريم الفساد إلى جعل الزوجية هي الإطار الوحيد الذي يخول لكل من الرجل و المرأة الاستمتاع ببعضهما البعض و تجريم كل اتصال جنسي يقع خارج هذا الإطار بأي شكل من الأشكال، فلو انحصرت إرادة المشرع في تجريم المواقعة فقط لعبر عن ذلك صراحة بقوله “كل مواقعة بين رجل و امرأة لا تربط بينهما رابطة الزوجية تكون جريمة فساد” فالخلط بين العلاقة الجنسية و المواقعة و حصر معنى العلاقة الجنسية في المواقعة يخرج كل اتصال جنسي بين رجل و امرأة لم يقع في شكل جماع عن نطاق التجريم الذي حدده الفصل 490 من القانون الجنائي، مما يفرغ الفصل 490 من القانون الجنائي من محتواه، فحتى إتيان الرجل للمرأة في دبرها لن يعتبر جريمة فساد إذا حصرنا  مفهوم العلاقة الجنسية في المواقعة، لأن المواقعة في مفهومها الشرعي يجب أن تكون في فرج المرأة.

من خلال ما يبق نخلص إلى أن مفهوم العلاقة الجنسية الواردة في الفصل 490 من القانون الجنائي يعني كل اتصال رضائي بين رجل و امرأة يحقق لكل منهما لذة جنسية خارج إطار الزوجية. مما يدفعنا للتساؤل عن مفهوم العلاقة الزوجية الوراد في الفصل 490 من القانون الجنائي، هل يقتصر الأمر على علاقة الزواج الصحيح أم يشمل كل أنواع الزواج بغض النظر عن صحته؟

من أجل الإجابة على  السؤال أعلاه لابد من الرجوع لمدونة الأسرة، حيث نظم المشرع أنواع الزواج و أحكام كل نوع بموجب القسم الخامس من الكتاب الأول من مدونة الأسرة، فالزواج حسب مدونة الأسرة إما زواج صحيح و إما زواج غير صحيح، فالزواج الصحيح حسب المادة 50 من مدونة الأسرة هو الذي توفرت فيه أركانه و شروطه و انتفت في الموانع، أما الزواج غير الصحيح حسب المادة 56 من المدونة فهو إما باطل أو فاسد، فالزواج يكون باطلا إذا اختلت فيه أركانه أو انعدم التطابق بين الإيجاب و القبول أو وجد بين أطرافه أحد الموانع الشرعية.

أما الزواج الفاسد حسب المادة 59 من المدونة فسبب فساده يرجع إلى اختلال شرط من شروط صحته طبقا للمادتين 60 و 61 من المدونة و منه ما يفسخ قبل البناء و بعده و منه ما يفسخ قبل البناء و يصحح بعده.

و على اعتبار أن عبارة “العلاقة الزوجية” الواردة في الفصل 490 من القانون الجنائي جاءت عامة، و حيث إن الضابط عندنا في تفسير النصوص و استنباط الأحكام أن العام يبقى على عمومه مالم يقم دليل على تخصيصه، أي أن اللفظ العام الوارد في نص ما يجب حمله على عمومه و إثبات الحكم لجميع أفراده قطعا، فإن قام دليل على تخصيصه و جب حمله على ما بقي من أفراده بعد التخصيص، فإن مفهوم العلاقة الزوجية يحتمل معنى الزواج الصحيح و غير الصحيح، فحتى لو كان عقد الزواج الرابط بين القاصرين غير صحيح لوجود سبب من أسباب عدم صحته كعدم توفر الولي أو عدم توثيق العقد أو أي سبب أخر يجعل العقد غير صحيح، فلا يمكن اعتبار العلاقة الجنسية القائمة بين القاصرين جريمة فساد، وفي هذا الصدد جاء في تحفة بن عاصم:

و حيث درء الحد يلحق الولد       في كل من نكاح قد فسد10

مما يعني أن الواطي في عقد الزواج غير الصحيح لا يلحقه حد الزنا.

كما يشترط لتكييف الفعل على أساس الفساد أن يكون القاصرين معا غير موجودين في علاقة زوجية، لأن وجود أحدهما في علاقة زوجية يغير الوصف الجنائي للفعل من الفساد إلى الخيانة الزوجية.

بالإضافة إلى ما سبق و على اعتبار أن جريمة الفساد هي جريمة عمدية فلابد من توفر القصد الجنائي عند طرفيها، و القصد الجنائي أساسي لقيام هذه الجريمة لأنه يحدد وجود عنصر الرضا من عدمه، ففي حالة انعدام القصد الجنائي فإن التكييف الجنائي للفعل الإجرامي يتغير من الفساد إلى جريمة هتك العرض أو الاغتصاب بحسب الظروف المحيطة بكل حالة.

بعد أن توصلنا للتكييف الجنائي السليم للعلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة بين القاصرين، لابد من البحث عن الآثار المترتبة عن هذا التكييف، وهو ما سنخصص له المبحث الموالي.

 

المبحث الثاني : آثار التكييف للعلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة بين القاصرين

يترتب عن تكييف العلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة بين القاصرين على أساس الفساد آثار قانونية منها ما يرجع إلى وصف الفعل (المطلب الأول) و منها ما يرجع إلى صفة مرتكبي الفعل الإجرامي ( المطلب الثاني)

المطلب الأول: الآثار المترتبة عن التكييف الجنائي

إن تكييف لعلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة بين القاصرين على أساس الفساد يرتب آثره على مستوى قواعد الإثبات، فإذا كان الأصل في  المادة الزجرية هو حرية الإثبات فإن المشرع قد يدخل استثناءات على هذا الأصل بموجب نصوص خاصة و يجعل إثبات فعل ما يتوقف على وسائل إثبات حصرية، و من بين هذه الفصول الفصل 493 من القانون الجنائي، فحسب الفصل 493 من القانون الجنائي لا يمكن إثبات جريمة الفساد إلا بوسائل إثبات حصرية، و هي محضر رسمي يحرره ضابط الشرطة القضائية في حالة التلبس أو اعتراف قضائي للمتهم أو اعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادة عن المتهم.

 

المطلب الثاني: الآثار المترتبة عن صفة مقترفي الفعل الإجرامي

على اعتبار أن العلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة واقعة بين قاصرين، فإن صفة مرتكبي الفعل الإجرامي ترتب آثارا على مستوى المسؤولية الجنائية (الفقرة الأولى) و أثارا على مستوى القواعد الإجرائية التي تحكم سير الخصومة الجنائية ( الفقرة الثانية)

الفقرة الأولى : آثر صفة مرتكبي الفعل على المسؤولية الجنائية

على اعتبار أن الأمر يتعلق بقاصرين فإن السن يؤثر على المسؤولية الجنائية للفاعلين، و هنا يجب التمييز بين حالتين. الأولى و هي عندما يكون سن القاصرين أقل من اثنى عشر سنة، ففي هذه الحالة و على اعتبار أن المسؤولية الجنائية للفاعلين منعدمة و على اعتبار أن الأمر يتعلق بجنحة يجب على المحكمة بناء على المادة 480 من قانون المسطرة الجنائية في حالة ثبوت الفعل أن تنبه القاصر و أن تسلمه لمن هو مسؤول عنه. أما الحالة الثانية وهي عندما يكون سن القاصر يتعدى اثني عشر سنة، ففي هذه الحالة يعد القاصر حسب الفصل 139 من القانون الجنائي ناقص المسؤولية الجنائية، ففي حالة ثبوت اقترافه للأفعال الإجرامية فإن المحكمة تصرح بإدانته، لكن نظرا لمسؤوليته الجنائية الناقصة فإن الأصل أن تتخذ المحكمة في مواجهة القاصر واحد أو أكثر من تدابير الحماية و التهذيب المنصوص عليها في المادة 481 من قانون المسطرة الجنائية، و استثناء يمكن للمحكمة أن تعوض أو تكمل هذه التدابير بعقوبة حبسية بشرط أن تقتضي ذلك ظروف الحدث أو شخصيته مع تعليل المحكمة لذلك، و في هذه الحالة فإن الحد الأدنى و الأقصى للعقوبة يخفض للنصف.

الفقرة الثانية: آثار صفة مقترفي الفعل على القواعد الإجرائية الزجرية

إن كون أطراف العلاقة الجنسية الرضائية غير المشروعة أحداث يرتب آثاره على القواعد التي تحكم سير المحاكمة الزجرية في جميع مراحلها. ففي مرحلة البحث التمهيدي لا يمكن لضابط الشرطة القضائية أن يتخذ في مواجهة الحدث بناء على المادة 460 من قانون المسطرة الجنائية إجراء الحراسة النظرية فالأصل أن يسلم الحدث لمن يتولى رعايته و في حالة تعذر ذلك أو عندما تقتضي ضرورة البحث ذلك يمكن لضابط الشرطة القضائية أن يحتفظ بالقاصر بناء على إذن من النيابة العامة في مكان مخصص للأحداث لمدة لا تتعدى مدة الحراسة النظرية.

أما خلال مرحلة المحاكمة و مادام الفعل يشكل جنحة فإنه يدخل في اختصاص قاضي الأحداث لدى المحكمة الابتدائية، و تسري على المحاكمة القواعد الخاصة بالأحداث التي تشكل استثناء على القواعد العادية للمحاكمة الزجرية.

الهوامش:

1_ لتفاصيل أكثر حول هذه القاعدة انظر: القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة؛ للزحيلي، ج1/ص193، وموسوعة القواعد الفقهية؛ لمحمد صدقي آل بورنو، ج1/2، ص117.

2- توجه للقوانين الوضعية التي تجرم العلاقات الجنسية الرضائية عدة انتقادات لأنها – حسب القائلين بها- تحد من الحرية الفردية و أن تجريم هذه الممارسات لا يتماشى مع العصر الحالي.  لكن يمكن الرد عن مثل هذه الانتقادات بما معنى الحرية حسب القائلين بأن القانون الجنائي يحد من التحريات الفردية؟

كما أن التشريعات الوضعية التي تجرم العلاقات الجنسية الرضائية لا تهدف الى الحد من حريات الأفراد بقدر ما تهدف إلى حماية المجتمع من الأضرار المترتبة عن مثل هذه الممارسات من أمراض منقولة جنسيا و من أطفال متخلى عنهم.

كما أن القول بأن  المطالبة برفع التجريم عن مثل هذه الممارسات هي من الأفكار الحديثة يمكن الرد عنه بأن هذه  الأفكار ليست من الأفكار الحديثة، بل هي أفكار ضاربة في القدم نادت بها الديانة المزدكية التي كانت سائدة في بلاد فارس، و في هذا الصدد يقول الشهرستاني في الملل و النحل : «أحل النساء وأباح الأموال وجعل الناس شركة فيه كاشتراكهم في الماء والنار والكلأ» ( أنظر الشهرستاني، الفتح محمد بن عبد الكريم، الملل و النحل تصحيح و تعليق أحمد فهمي محمد، دار الكتب العلمية، الصفحة 276) كما كانت هذه الممارسات سائدة عند العرب قبل الإسلام .

3- قرار محكمة النقض عدد 416 الصادر بتاريخ 10 أبريل 2014 في الملف الجنائي عدد 11025/6/11/2013.

4- يقصد بمنطوق النص ما دل عليه النص من حكم في محل النطق.

5- يقصد بمفهوم المخالفة الحكم المخالف للمنطوق.

6-  القرار عدد 416 الصادر عن محكمة النقض في الملف الجنائي عدد 2013/11/6/11025.

7- George Yule, pragmatics, Oxford University press, first edition, 1996, page 3.

8- الشيخ أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية، 1989، الصفحة 231.

9- نذكر من بينهم:

عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم الخاص، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، الطبعة الثامنة، 2016، الصفحة 212.

امحمد اقبلي و عابد العمراني الميلودي، القانون الجنائي الخاص المعمق في شروح، مكتبة الرشاد، السطات، الطبعة الأولى 2020 الصفحة 190.

10_ بن عاصم، تحفة الحكام في نكت العقود و الأحكام، أبي بكر محمد بن محمد بن محمد بن عاصم الأندلسي، الطبعة الأولى، دار الأفق العربية ،القاهرة ، 2011، الصفحة 41.