المساطر المرجعية بين الشرعية والممارسة

8 يونيو 2020
المساطر المرجعية بين الشرعية والممارسة

المساطر المرجعية بين الشرعية والممارسة

مقدمة:

إن توفير الحماية للحريات والحقوق الفردية واجب على عاتق الدولة، والتزام مفروض عليها، تضم تحت جناحيها أفرادا يعشون فيها، ويتحقق من خلال تقرير مبدأ الشرعية الجنائية في جانبها الموضوعي وكذا المسطري، فإذا كان الفكر الإنساني قد اهتدى عبر مراحل نضاله الطويل إلى ضرورة إعلاء راية حقوق الدفاع والانتصار إلى العدالة فيما تضمنته الإعلانات ذات العلاقة وكذا المواثيق الدولية إلى جانب الدساتير المغربية.

والدولة باعتبارها صاحبة الحق في العقاب، لا تستطيع بهذه الصفة اقتضاء حقها بالتنفيذ المباشر على المتهم مهما بلغت خطورة الجريمة، وإنما عليها أن تلجأ في سبيل ذلك إلى الجهات والإجراءات التي حددها القانون، إلا أن الواقع العملي  أفرز لنا سبلا ومساطر لم ينص عليها القانون ولم يرسم لها إطار معين، ومن بين هذه المساطر نجد المساطر المرجعية.

ومن خلال استقراء نصوص قانون المسطرة الجنائية  وكذلك النصوص المسطرية الخاصة نقف على خلاصة مفادها٬ أن هذا التشريع بمختلف أنواعه لا يتضمن أي تنصيص صريح على ما يصطلح عليه بالمسطرة المرجعية أو بالمسطرة الاستنادية أو الجزئية،  وبالتالي فهو مصطلح غير قانوني أو بالأحرى غير منصوص عليه قانونيا، وهو الأمر الذي يدفعنا إلى طرح إشكالية محورية تتمثل في الإشكاليات الموضوعية والمسطرية للمساطر المرجعية؟

ولتفكيك عناصر الإشكالية السالفة ارتأينا معالجة الموضوع وفق التصميم التالي:

المحور الأول: الإشكاليات الموضوعية للمساطر المرجعية

المحور الثاني: الإشكاليات المسطرية للمساطر المرجعية

المحور الأول: الإشكاليات الموضوعية للمساطر المرجعية

من المعروف أن سياسة التجريم والعقاب الحديثة تقوم على مجموعة من الدعائم الأساسية التي تستهدف حماية حقوق الأفراد وصيانة مصالحهم في ظل الحرص التام على تحقيق التوازن والأمن داخل المجتمع، من أهمها مبدأ الشرعية الجنائية، الذي يقضي بضرورة تحديد الأفعال التي تعد جرائم سلفا.

ويقصد بمبدأ الشرعية ” ضرورة خضوع الفعل أو الامتناع لنص من نصوص التجريم ” أنه لكي يكون أو يعتبر فعل ما أو امتناع ما جريمة فلابد من وجود نص جنائي يجرم هذا الفعل أو الامتناع، ويضفي عليه صبغة عدم  المشروعية، وهذا المبدأ هو ما يعبر عنه أحيانا بمبدأ شرعية الجرائم و عقوباتها”،وأحيانا بمبدأ ” لا جريمة و لا عقوبة إلا بنص”، أو مبدأ ” النصية ” الذي يعني حصر مصادر التجريم و العقاب في مصدر واحد وهو النص القانوني الجنائي[1].

عطفا على يمكن أن نستشف تبني التشريع الجنائي الإسلامي  لهذا المبدأ من خلال مجموعة من الآيات القرآنية الكريمة منها قوله تعالى:  “وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” [2]، وقوله تعالى: “وما كان ربك ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا ” [3]، وقوله تعالى ” قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف”[4]. وقوله تعالى بعد تحريم بعض صور السلوك ” إلا ما قد سلف”[5].

ومن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي تقرر تطبيقات لهذه القاعدة قوله في حجة الوداع ” ألا وإن دم الجاهلية موضوع وأول دم أبدأ به دم الحارث بن عبد المطلب، وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أبدأ به ربا عمي العباس بن عبد المطلب”، وهذا الحديث النبوي، مع الآيات القرآنية التي قدمنا بعضها تفيد بمجموعها أن الأصل في الشريعة الإسلامية هو أن استحقاق  المتابعة أو العقاب متوفق على سبق الإنذار به وأن من يرتكب فعلا ما أو يسلك سلوكا ما لا  يتخذ في حقه أي إجراء أو عقاب إلا إذا كان قد سبقه نص تشريعي يوجبه.

وإذا كانت الشرعية الموضوعية تقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وذلك لحماية المجتمع من خطر التجريم والعقاب بغير الأداة التشريعية[6]،  إلا أن هذه الحلقة الأولى قد لا تكفي في حماية أمن وسلامة الأفراد أثناء مراحل المتابعة والتحقيق والمحاكمة، لذلك كانت الحاجة إلى استكمال الحلقة الأولى من الشرعية الجنائية وهو ما يسمى بالشرعية الإجرائية، وذلك بتحديد الإجراءات الكفيلة بضمان محاكمة عادلة للمتهم عبر مختلف مراحل الدعوى العمومية.

وهذه الشرعية الإجرائية هي التي تبين المساطر التي يحق للهيئات التي تمثل المجتمع أن تسلكها، والمساطر التي يمتنع عليها سلوكها، حتى لا يكون في تصرفها مجال للإرتجال والإساءة إلى حقوق الأفراد وحرياتهم.

وباستقرائنا لمواد لقانون المسطرة الجنائية  وكذلك المساطر الخاصة فلا وجود لأي مقتضى قانوني ينص على هذه المساطر مما يجعل منها بدعة قضائية من صنع الشرطة القضائية بتزكية من النيابات العامة لكون الأبحاث التمهيدية تجري تحت مراقبتها وإشرافها، إذ أن الأمر لا يتعلق بإجراء من الإجراءات  العادية التي  تحرك بها الدعوى العمومية، فهي لا تعدوا أن تكون تصريحات يدلي بها متهم في حق شخص آخر، وغالبا ما تكون مجرد من أية إثباتات تعضد وتفند تصريحاته، ليبادر ضباط الشرطة القضائية إلى ترتيب الآثار القانونية عن تلك التصريحات بإصدار مذكرة أو برقية بحث في حق ذلك الشخص المصرح به والقبض عليه ومحاكمته والحكم عليه بناءا على تلك التصريحات.

وإذا ما رجعنا إلى دستور المملكة لسنة 2011  فهو نص على مبدأ الشرعية في شقها المسطري من خلال  الفصل 23 منه حيث نص على أنه:

” لا يجوز إلقاء القبض على أي شخص أو اعتقاله أو متابعته أو إدانته، إلا في الحالات وطبقا للإجراءات التي ينص عليها القانون…”

ومما يزيد من خطورة هذه المساطر أنها تكون في الغالب في جرائم المخدرات التي تكون غالبا على شكل عصابات، مما يجعل  من المساطر المرجعية عبارة عن تصريحات كيدية قائمة على دوافع شخصية أو مطية للنيل من بعضهم البعض، وكذلك مجالا للتجارة والإبتزاز للبعض الاخر، والأدهى من ذلك هو أنها أصبحت الطريق السريع للوصول إلى بعض الأشخاص ومنهم من جعل منها تجارة مربحة خاصة  من ذوي السوابق القضائية.

أمام كل هذه الإشكالات والتي ترتبط في أساسها بالشرعية الإجرائية عملا بالقاعدة التي تنص على أنه لا إجراء ولا محاكمة إلا بنص، وهو الأمر الغائب تشريعيا والحاضر عمليا،  ونظر للصمت التشريعي عن هذه المساطر والنقاش الدائر حولها سواء على المستوى القانوني أو على المستوى القضائي، فقد انتبه له المشرع وجاء لتداركه في مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي جاءت المادة 286 منه لتنص على:

“… لا يجوز للمحكمة أن تبني قناعتها بالإدانة على تصريحات متهم على آخر إلا إذا كانت معززة بقرائن قوية ومتماسكة.

تتلقى المحكمة هذه التصريحات دون أداء اليمين القانونية…”

ولعل هذا النص دليل قاطع على اعتبار المساطر المرجعية بدعة قضائية وهذا النص هو ما سيعطي هذا الإجراء الشرعية، بحيث اشترط  في اعتماد تلك التصريحات أن تكون معززة بقرائن وإثباتات قوية ومتمسكة  نافية للشك.

المحور الثاني: الإشكاليات المسطرية للمساطر المرجعية

من المعلوم أن فتح أي مسطرة مرجعية يستتبعها اتخاذ مجموعة من الإجراءات الماسة بحقوق الأفراد ومبادئ المحاكمة العادلة، وأولى هذه المبادئ مسها لمبدأ من المبادئ الراسخة التي تتميز بها العدالة الجنائية، والتي كرستها جل التشريعات المعاصرة سواء في دساتيرها أو في قوانينها المسطرية وهي قرينة البراءة أو أصل البراءة كما يسميها البعض الآخر.

حيث إن دستور المملكة نص على هذا المبدأ من خلال الفصل 23  الفقرة الرابعة بقوله:

” …قرينة البراءة والحق في محاكمة عادلة مضمونان.

وكذلك في الفصل 119 منه:

” يعتبر كل مشتبه فيه أو متهم بارتكاب جريمة بريئا، إلى أن تثبت إدانته بمقرر قضائي مكتسب لقوة الشيء المقضي به “.

وبذلك تعتبر قرينة البراءة ضمانة أساسية لكل شخص صدرت في حقه متابعة جنائية حيث يظل بريئا ويعامل على هذا الأساس طيلة مدة متابعته، وكل مساس بهذا المقتضى، لا يعد فقط خرقا لقاعدة قانونية، بل يشكل مساسا بحقوق الإنسان بشكل عام.

وحيث إن النيابة العامة لها دور كبير في إتباع واعتماد هذه المساطر، وذلك عبر التعليمات التي توجهها لضباط الشرطة القضائية وكذلك من خلال امتلاكها للدعوى العمومية وإعمالها لسلطة الملائمة باعتبارها سلطة تقديرية ممنوحة لها قصد توجيه الإتهام لتحريك الدعوى العمومية أو حفظ الملف، فيكون للنيابة العامة أن تمتنع عن توجيه الإتهام على الرغم من توافر جميع أركان الجريمة، وهو بهذا المعني ليس مضادا لنظام الشرعية لكن هذا النظام يمنح النيابة العامة سلطة تقديرية تخولها قسطا من المرونة في تقدير ملائمة إتخاذ قرار الإتهام من عدمه وذلك وفقا لمصلحة المجتمع عموما.

وفي هذا السياق لا نغفل مسألة الإثبات باعتبارها أهم وأخطر النظريات القانونية، بل لا يوجد في القانون نظرية تضارعها في السيطرة والشمول وفي كثرة التطبيق من الناحية العملية، بل إنها النظرية الوحيدة التي لا تنقطع المحاكم عن تطبيقها في كل ما يعرض عليها من أقضية.[7]

كما أن تلك التصريحات المدلى بها  في إطار المساطر المرجعية أو المساطر الإستنادية أو المساطر الجزئية تكون غالبا مجرة من أية إثباتات، وتكون في الغالب الأعم راجعة إلى أسباب إنتقامية أو في إطار تصفية حسابات شخصية، علما أن أصل البراءة يلقي عبء الإثبات على النيابة العامة التي يجب عليها أن تواجه المتهم بالأدلة والحجج الموجهة ضده، وهو الأمر الذي تعجز عنه النيابات العامة  وتحيل مع ذلك الملف إلى قضاة الحكم مجرد من أية أدلة وإثباتات ماعدا ذلك التصريح المدلى به ضده.

وإذا كان المبدأ العام يقضي أن لا يتولد عن أعمال البحث والتحري دليل قانوني، ذلك أن تلك الأقوال المدلى بها لا تعدو أن تكون مجرد تصريحات ولا يمكن أن نعتبرها شهادة، وكما هو معلوم فهذه الأخيرة هي التي تؤدى أمام المحكمة بعد أداء اليمين القانونية، إلا الواقع العملي هو على العكس من ذلك تماما إذ أن صكوك الإتهام أصبحت بأيادي المصرحين.

وحيث إن ما بني على باطل فهو باطل فلا يمكن لقاضي الحكم أن يصلح ما وصله معيبا،  ولا يجد ما يبني به قناعته وعقيدته تجاه الوقائع المعروضة عليه  من غير تلك التصريحات التي تتحول إلى شهادة بعد أداء اليمين القانونية موجهة ضد متهم آخر لكن هذا الإحراج يزداد تفاقما  إذا ما تراجع المصرح عن تصريحاته، ليجد القاضي نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما وذلك إما بإصدار حكم بالإدانة بناء على تلك التصريحات، وإما بتبرئة ساحة المتهم وهو أمر قيلا ما يحدث.

وما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن القاضي الجنائي وهو يمارس حريته في الاقتناع له أن يبعد شهادة الشهود والاعتراف متى تبين له من خلال الأحداث والوقائع عدم صحتها، وبالتالي الحكم ببراءة المتهم وكذلك الأمر نفسه في حالة الشك إذ أن الشك يفسر لصالح المتهم كما هو معلوم، إلا الواقع العملي يكتض بالأحكام والقرارات التي صدرت في إطار المساطر المرجعية.

خاتمة:

إن ما يمكن أن نتوج به هذا الموضوع هو القول بأن عدالة الشكل أعظم  وأقدس من عدالة الموضوع، وأن القانون الإجرائي هو قانون الأبرياء، إذ لا يمكن أن نحقق ذلك الأمن القضائي الذي لطالما دعت إليه كل الجهات الرسمية في زمن مازلت فيه حرية الأفراد مهددة وليست في مأمن عن بعض الإجراءات المصطنعة والمبتدعة، والتي تخالف جميع القوانين ومن بينها القانون الأسمى للبلاد. وهو الوضع الذي يستوجب أمرين أساسيين أولا ضروة تدخل النيابة العامة للحد من هذه المسطرة المرجعية الأمر الثاني ضرورة تدخل المشرع لتنظيم هذا الإجراء والتنصيص عليه في مقتضيات مشروع قانون المسطرة الجنائية.

 

[1] ـ عبد الواحد العلمي، المبادئ العامة للقانون الجنائي المغربي ، الجزء الأول – دار النشر مطبعة النجاح الجديدة 1990، ص 86 .

[2]ـ سورة الإسراء، الآية 15.

[3]ـ سورة القصص، الآية 59.

[4]ـ سورة الأنفال، الآية 38.

[5]ـ سورة النساء، الآية 22 – 23.

[6]ـ وهو المبدأ الذي نص عليه الدستور المغربي لسنة 2011 حين حدد للسلطة التشريعية مجالات التشريع من خلال الفصل 71 حيث نجد من بين هذه المجالات تحديد الجرائم والعقوبات الجارية عليها، وما يعضد هذا المقتضى نجد أحكام الفصل 3 من القانون الجنائي ” لا يسوغ مؤاخذة أحد على فعل لا يعد جريمة بصريح القانون ولا معاقبته بعقوبات لم يقررها القانون”.

[7]  –   عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، جII ، دار النشر للجامعات العربية المصرية، 1956، ص:10.