أثر التكييف القانوني للأفعال الاجرامية على مؤسسة التحقيق الإعدادي

4 يوليو 2020
أثر التكييف القانوني للأفعال الاجرامية على مؤسسة التحقيق الإعدادي

أثر التكييف القانوني للأفعال الاجرامية على مؤسسة التحقيق الإعدادي 

يجسد التكييف الجنائي للأفعال الجرمية ذلك الالتحام بين عنصري القانون الجنائي[1]، المادي المتمثل في مجموعة القانون الجنائي ، و الشكلي المتجسد في قانون المسطرة الجنائية ،و يعتبر من أكثر القضايا تعقيدا في التشريع الجنائي ، إذ يثير مشاكل كثيرة لا يمكن حلها بيسر سواء في جانبه النظري أو تطبيقاته العملية.

فمن الناحية النظرية ،نجد أن الفقه لا زال عاجزا عن وضع نظرية جامعة مانعة للتكييف توضح و تؤطر معالمه ، بل لازال الخلاف محتدما حتى من ناحية تعريفه بشكل يلم بجميع جوانبه ، أما من الناحية العملية ، فتكمن في الظروف و الوقائع التي تؤثر فيه بالسلب أو الايجاب، و في الإجراءات القانونية التي يمكن أن تتأثر في حد ذاتها به.

فالتكييف يعد أحد أشكال تطبيق القانون ، ذلك أنه يتضمن- التكييف القانوني- جملة من الأفعال التي تعتبر تطبيقا له – القانون-، فعملية التكييف ترتبط بدراسة الوقائع المكونة للظاهرة القانونية ، و من ثم اختيار القاعدة القانونية المتناسبة معها ، و القيام بتفسيرها ، و في ضوء ذلك اتخاد القرار عن مدى صلاحية تطبيقها على الظاهرة المذكورة ، و عليه فالتكييف القانوني للظاهرة القانونية هو تثمين للوقائع التي تتضمنها الظاهرة المدروسة و ذلك انطلاقا من الشروط و المواصفات المحددة في القاعدة القانونية المزمع تطبيقها عليها[2] .

بالتكييف يتم تحديد التهمة التي على أساسها تحرك الدعوى العمومية ، لتأتي بعدها مرحلة المحاكمة التي تضع من خلالها هيئة الحكم يدها على القضية للبت فيها وفق التكييف المسطر من طرف مثير الدعوى العمومية[3] ،لكن يبقى أن تكييف الجرائم ، عبارة عن عملية متحركة ، تبتدأ حال اتخاد جهة الاتهام لقرار تحريك الدعوى العمومية المتضمن اعتبار فعل أو واقعة معينة جريمة ، هذا القرار الذي يتضمن تكييف الواقعة الاجرامية ، انطلاقا من انطباق أركان جريمة معينة و فق نص تشريعي جنائي عليها ، كما أن هذا التكييف لا يصطبغ بالصبغة النهائية ، مادامت امكانية تعديله واردة انطلاقا مما قد تسفر عنه التحقيقات الجنائية من ظروف ووقائع قد تؤثر فيه ، من هنا فإن دينامية هذا التكييف لا تتوقف إلا بصدور حكم بات فاصل بصورة نهائية في الدعوى الجنائية[4]يتضمن تكييفها النهائي .

و النيابة العامة على هذا الأساس تكون هي أول جهة قضائية مختصة بتكييف الواقعة الاجرامية انطلاقا من الوقائع المرفوعة اليها من طرف الشرطة القضائية بمناسبة الأبحاث المنجزة، لتقرر تبعا لذلك إما حفظ الملف ، أو إحالة الملف على هيئة الحكم، أو التماس فتح تحقيق موجه لقاضي التحقيق .

فكما لا يخفى فإنه من غير المتصور القيام بمباشرة اجراءات التحقيق بشكل تلقائي من طرف قاضي التحقيق دون ملتمس متابعة و فتح تحقيق ، أو دون شكاية من الطرف المدني مصحوبة بالمطالب المدنية ، و حتى في الحالة التي يتخلى له فيها ممثل النيابة العامة عن القضية عند تواجده في عين المكان بمناسبة الجريمة المتلبس بها جناية كان أم جنحة ، و بعد القيام بالإجراءات و جمع وسائل الاثبات و المعاينات و الحجز و إرسالها للنيابة العامة ، لابد من أن تقدم هذه الاخيرة ملتمساتها من اجل فتح تحقيق في القضية[5] طبق ما هو منصوص عليه في المادة 84 من ق.م.ج، مادام أن تحريك الدعوى العمومية من عمل النيابة العامة و ذلك كله في إطار فصل الوظائف[6] .

و الجدير بالإشارة أن مؤسسة التحقيق الاعدادي من حيث نطاق و مدى اللجوء إليها عرفت تغييرات[7] منذ قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 مرور بظهير الاجراءات الانتقالية لسنة 1974 إلى غاية قانون المسطرة الجنائية لسنة 2002[8]، هذا الأخير الذي حاول الأخذ بمزايا الظهيرين السابقين و تفادي عيوبهما باللجوء إلى توسيع نطاق التحقيق من خلال المادة 83 من ق.م.ج التي جاء فيها ” يكون التحقيق إلزاميا في:

– الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد أو التي يصل الحد الأقصى العقوبة لها ثلاثين سنة.

– في الجنح المرتكبة من طرف الأحداث.

– في الجنح بنص خاص.

يكون اختياريا فيما عدا ذلك من الجنايات و في الجنح المرتكبة من طرف الأحداث، و في الجنح التي يكون الحد الأقصى للعقوبة المقررة لها خمس سنوات أو أكثر“.

و كما سبق فإن تكييف الأفعال الجرمية على نحو معين يرتب من تلقاء نفسه جميع النتائج الموضوعية و الاجرائية الناتجة عن هذا التكييف ، فكما يذهب بعض الفقه[9] فلا توجد لهذا التكييف طريقتان إحداهما موضوعية و الأخرى إجرائية ، كما لا توجد بالتالي حدود فاصلة بين نطاق كل من القانونين في الآثار المترتبة عليه ، ليبقى التساؤل مطروحا حول الآثار التي يرتبها التكييف المعيب من طرف النيابة العامة على إلزامية التحقيق ،أو بعبارة أخرى ما هي الاثار الناتجة عن إحالة النيابة العامة لملف القضية إلى هيئة الحكم دون المرور عبر التحقيق الاعدادي في القضايا و الحالات التي تستوجبه ؟

و حتى يتضح المقال بالمثال كما يقال ، نمثل لهذه الاشكالية بالحالة التي تتابع فيها النيابة العامة المتهم بجنحة القتل غير العمد المعاقب عليها من ثلاث أشهر حبسا إلى خمس سنوات و غرامة من مائتين و خمسين إلى ألف درهم طبقا للفصل 432 من القانون الجنائي ، و تحيله إلى غرفة الجنح بالمحكمة الابتدائية من أجل محاكمته ، لكن يتبين من خلال المناقشة أن الجريمة هي قتل عمد بعد إدلاء شاهد  بشهادته في القضية و التي صرح من خلالها عن إفضاء المتهم له بنية قتله للضحية .

إذن أصبحنا الأن أمام جناية القتل العمد المعاقب بالسجن المؤبد طبقا للفصل 392 من المجموعة ، أو بالإعدام إذا رافقه ظرف سبق الاصرار طبقا للفصل 393 حسب التكييف الذي تعطيه المحكمة، و لاشك ان هذا المعطى الجديد كان يستوجب أن يضع قاضي التحقيق يده على ملف القضية مادام أن عقوبات الجرائم المنصوص عليها في الفصلين 392-393 ق.ج تدخل في نطاق الجرائم التي يكون فيها التحقيق الزاميا طبقا للمادة 83 من ق.م.ج

كيف إذن يتم التعامل مع حكم المحكمة القاضي بعدم الاختصاص؟ هل يملك قاضي التحقيق أن يستقبل مباشرة هذا الحكم القاضي بعدم الاختصاص بالرغم من أن الأمر يتعلق بجناية القتل العمد ؟

بطبيعة الحال سيكون الجواب بالنفي، ذلك أن الحكم الصادر عن غرفة الجنح الابتدائية هو حكم قابل للاستئناف أمام غرفة الجنح الاستئنافية التي يعود لها الفصل في تعلق الأمر بجناية أو جنحة ، ذلك أن التكييف الذي ترفع به الدعوى ليس نهائيا، و ليس من شأنه أن يمنع القاضي  الذي ينظر في الطعن من تغييره متى رأى الواقعة المعروضة عليه بعد بحثها ترتد إلى وصف قانوني آخر مطابق للقانون الجنائي ، و هو ما أشارت إليه الفقرة الأولى من المادة 432 من قانون المسطرة الجنائية ” لا ترتبط غرفة الجنايات بتكييف الجريمة المحالة عليها، و يجب أن تكيف قانونيا الأفعال التي تحال إليها ، و أن تطبق عليها النصوص الجنائية المتلائمة مع نتيجة بحث القضية بالجلسة “.

فالظاهر من هذا المقتضى القانوني أن تغيير المحكمة للتكييف القانوني للواقعة ليس مجرد رخصة لها، بل هو واجب عليها ، إذ تكون ملزمة بتمحيص الواقعة المطروحة عليها بجميع أوصافها و أن تطبق عليها نصوص القانون تطبيقا سليما ، فليس للمحكمة أن تقضي في دعوى رفعت إليها بوصف معين إلى بعد تقليب وقائعها على جميع الوجوه القانونية و التحقق من أنها تقع أو لا تقع تحت أي وصف قانوني من أوصاف الجرائم المستوجبة للعقاب[10] .

و بطبيعة الحال فإن القرار الذي تصدره غرفة الجنح الاستئنافية يكون بدوره قابلا للطعن بالنقض ، الأمر الذي يطرح معه التساؤل عن الإمكانية المتاحة قانونا لإحالة الملف مباشرة على قاضي التحقيق بعد أن أصبح القرار نهائيا ؟

إن المتتبع لقانون المسطرة الجنائية سيجد أن هذه المسألة تعرف فراغا تشريعيا ، و بالتالي لا توجد أي امكانية متاحة تشريعيا لتجاوز هذه الاشكالية، لأن التنازع في الاختصاص إنما ينصب أساسا على أحكام متعارضة من حيث الاختصاص ، أي أن تكون راجعة للهيئات القضائية للحكم ، أو في الحالة التي يكون قاضي التحقيق هو المبادر إلى إحالة الملف إلى جهة الحكم ، و بالتالي لا تبقى أي امكانية لهيئات الحكم أن ترجع الملف إلى قاضي التحقيق ، مادام أن الاجراءات المسطرية قطعت اشواطا كبيرة ، و لا يمكن مباشرة الاجراءات بشكل عكسي و الرجوع إلى الوراء في مسار القضية، فكيف إذا يتم التعامل مع هذه الاشكالية ؟

من أجل إعادة مسار القضية إلى نقطة الصفر ، تفتقت عبقرية القضاء و برزت حلول من صنعه و ليس من صنع المشرع، ذلك أن التنفيذ في الميدان الزجري هو من صلاحية النيابة العامة فيما يرجع للمقررات القضائية الصادرة بالإدانة ، و مادام الحكم النهائي الفاصل في مسألة التكييف باعتبار الجريمة تتعلق بالقتل العمد ، فإن النيابة العامة تتولى تنفيذ هذا المقرر القضائي ، و تعمد إلى إحالته على قاضي التحقيق ، الأمر الذي يجعل مسار القضية يبتدأ من جديد[11].

بدون شك يتولد عن هذه المسألة هدر كبير للزمن القاضي و الحال أن المحاكمة العادلة تتطلب أن يتم انهاء اجراءات المتابعة و الفصل في الدعوى في أسرع وقت ممكن مع احترام كل الضمانات القانونية .

أكيد قد يتبادر إلى الذهن سؤال وجيه ، فإذا كانت محكمة النقض قد فصلت بحكم نهائي في تكييف الأفعال الجرمية و بسطت رقابتها على هذا الأخير و اعتبرت أن الأمر يتعلق بجريمة قتل عمد ، فإنه من العبث الرجوع إلى قاضي التحقيق من أجل أن يباشر إجراءاته المرتبطة بالتحقيق في الجريمة و البحث عن الأدلة .

ماذا لو أن قاضي التحقيق توصل من خلال أبحاثه المنجزة إلى أن الأفعال المتابع عنها المتهم تتعلق بجنحة بالقتل الخطأ و ليس جناية القتل العمد ، فما مصير القرار الصادر عن محكة النقض الذي بسطت من خلاله رقابتها على التكييف ؟

ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أن قضاء النقض يهتم أساسا بالبحث عن صحة ما أثير من وسائل و أسباب[12] ينعى بها القرار أو الحكم المطعون فيه ، و يطالب فيها إبطال الحكم كليا أو جزئيا[13] ، إذ له طرق ووسائل خاصة به ، تختلف عن تلك المتعلقة بالمقالات و المذكرات المقدمة أمام محكمة الموضوع[14] ، التي تراقب محكمة النقض عملها انطلاقا من هذه الوسائل . من هنا نتساءل عن مدى الزامية القرار النهائي الصادر عن قضاء النقض للجهة القضائية المحالة عليها القضية ؟

بطبيعة الحال لن يكون هذا القرار ملزما ، و لذلك يمكن أن نتصور أن الجهة القضائية المحال عليها ملف القضية أن يكون لها وجهة نظر أخرى من حيث التكييف و تعتبر الفعل المتابع من أجله جنحة القتل الخطأ ، انطلاقا من مبدأ استقلال الهيئات القضائية في التكييف .

و كما سبق الاشارة فإن تكييف واقعة بشكل معين يجعل هذا التكييف يرتب آثاره الاجرائية ، فإذا كان من الممكن تقبل امكانية تغيير الوصف من قبل قاضي التحقيق بعد ارجاع ملف القضية اليه و احالته على الجهة المختصة ، فإن إعمال بعض قواعد المسطرة قد تؤدي إلى بروز وضعيات شاذة و غير مقبولة .

بالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية و تحديدا الفقرة الأولى من المادة 216 نجدها تنص على أن” يصدر قاضي التحقيق أمرا بعدم المتابعة إذا تبين له أن الأفعال لا تخضع للقانون الجنائي أو لم تعد خاضعة له ، أو أنه ليس هناك أدلة كافية ضد المتهم ، أو أن الفاعل ظل مجهولا “.

فهذه المادة قد حددت بعض الحالات التي يمكن لقاضي التحقيق أن يستند عليها و يعلل بها أمره في عدم المتابعة[15]،التي قد تكون إما أسباب واقعية ( عدم كفاية الأدلة- بقاء المتهم مجهول..)، أو قانونية (نسخ مقتضيات القانون الجنائي- تحقق واقعة التقادم ..)

فإذا أخذنا على سبيل المثال تحقق واقعة التقادم ، فإن انتهاء مدة التقادم يفضي الى انتهاء حق الدولة في الدعوى الجنائية، هذه الأخيرة المحركة للخصومة الجنائية ،فانقضاء الأولى يستتبع بقوة القانون انقضاء الثانية، و بالتالي سقوط الحق الذي ينشأ للدولة مع سلطتها في العقاب من يوم ارتكاب الجريمة[16]، و الملاحظ أن نظام التقادم أخدت به جل التشريعات ، هذا النظام الذي يفترض فيه المشرع مرور فترة من الزمن تطول أو تقصر بحسب جسامة الفعل المرتكب أهو جناية أو جنحة أم مخالفة[17].

و العبرة في إعمال قواعد التقادم هي بالوصف الذي تسبغه الجهة القضائية المحالة عليها واقعة الدعوى و يكون أساسا لقرارها، و ليس بالوصف الوارد في ملتمس اجراء تحقيق- في حالتنا هاته-[18]، فالوصف القانوني الذي يعتد به في هذا السياق هو الذي يقرر قاضي التحقيق الذي ينظر الدعوى العمومية[19]، و الذي يقرر مصير الدعوى، فيما إذا كانت لازالت قائمة أو سقطت بالتقادم استنادا الى وصفها الصحيح، و بالتالي يكون قاضي التحقيق المصدر لأمر بتقادم الدعوى العمومية ، مصدرا منذ البداية قراره بعدم إجراء تحقيق[20].

أكيد أن مثل هذه الوضعيات التي قد يشهدها الواقع العملي من شأنها أن تمس في العمق بحسن تصريف العدالة ، الأمر الذي يزيد من تعميق أزمة الثقة التي تعرفها علاقة المواطنين و مؤسسة القضاء.

إذا كنا تساءلنا سابقا عن الاثار الناتجة عن إحالة النيابة العامة لملف القضية إلى هيئة الحكم دون المرور عبر التحقيق الاعدادي في القضايا و الحالات التي تستوجبه ، و الحلول التي اعتمدها القضاء لإعادة مسار القضية من جديد و إحالتها للتحقيق ، فإن تساؤل أخر -مرتبط به- يطرح حول تعامل المحكمة مع الدفع المثار من قبل المتهم بانعدام التحقيق .

حسب بعض الفقه[21] فإن عدم ضبط مسطرة الدفوع في المسائل الجنائية و عدم التعمق في إجراءاتها و آثارها الحاسمة ينعكس بصورة مباشرة على الممارسة القضائية ،فتجد الدفاع يخلط أحيانا في مرافعاته بين الدفوع الشكلية و الموضوعية و بينها و بين المسائل العارضة، و لعل السبب في ذلك يعزى إلى الاشارة العرضية لها في الأبحاث و المؤلفات المتخصصة في المسطرة الجنائية[22] .

و الذي يزكي الملاحظة السابقة أن الدفع بانعدام التحقيق لا يجد له مكانا ضمن المؤلفات الفقهية ، الأمر الذي يشهد ندرة إثارته أمام القضاء الزجري على مستوى الممارسة ، لذلك فإن تناول كيفية تعامل المحكمة معه – الدفع- يتوقف أساسا على تحديد طبيعته، هل يعتبر من الدفوع الموضوعية التي تعتمد على ما يملكه كل طرف في الدعوى من حقوق الدفاع [23]، أم من المسائل الأولية التي يوقف عليها الحكم في الدعوى و يعود الاختصاص للمحكمة ذاتها للفصل فيها ؟أم من النزاعات المعترضة التي ترفع بها دعوى مستقلة أمام جهة الاختصاص و يتوقف نظر الدعوى الجنائية على الفصل فيها ؟ أم تعد من الدفوع الشكلية[24] التي تتعلق بالاحتجاج بخرق الاجراءات الشكلية التي يفرضها القانون للمتابعة الجنائية و إصدار الحكم فيها ؟

لا شك أن المتأمل للدفع بانعدام التحقيق يجده دفعا ينصب أساسا على الاحتجاج بخرق اجراء مسطري وقع أثناء مرحلة المتابعة ، و بالتالي فإنه يجد أساسه القانوني في المادة 323 من ق.م.ج التي تنص على أنه ” يجب تحت طائلة السقوط أن تقدم قبل كل دفاع في الجوهر ، و دفعة واحدة، طلبات الاحالة بسبب عدم الاختصاص- مالم تكن بسبب نوع الجريمة- و أنواع الدفع المترتبة إما عن بطلان الاستدعاء أو بطلان المسطرة المجراة سابقا ، و كذا المسائل المتعين فصلها أوليا … “.

فإذا كان النص واضح في وجوب إثارة الدفع الشكلي- و من ضمنه الدفع بانعدام التحقيق- قبل أي دفاع في جوهر الدعوى ، أي قبل استنطاق المتهم في خصوص التهمة الموجهة إليه[25] ، فإن هذه القاعدة ليست على إطلاقها ، إذ أن هناك من الدفوع التي يمكن التمسك بها في جميع مراحل التقاضي و يمكن للمحكمة أن تثيرها تلقائيا[26] إذا كانت من الدفوع المرتبطة بالنظام العام .

و الدفع بانعدام التحقيق يدخل ضمن هذه الزمرة الأخيرة من الدفوع المرتبطة بالنظام العام ، مادام أن الاستجابة له يؤدي إلى انهيار المحاكمة من أساسها بسبب أن المفترض الأساسي- إجراء تحقيق إعدادي-  لقيامها لم يتحقق .وهو ما يجعل الجزاء الجنائي من النظام العام ، يوفر الحماية للقواعد الاجرائية نظرا لارتباطها بالحقوق و الحريات التي يكفلها القانون للأفراد[27] .و بالتالي فإن تصريح المحكمة ببطلان المسطرة المجراة يجعلها في هذه الحالة – انعدام القيام بالتحقيق- تحيل ملف القضية إلى النيابة العامة ، مادام أن تداركها للبطلان بالقيام بإجراء تحقيق تكميلي غير ممكن[28] .

لكن ما هو الوقت الذي يجب أن تجيب فيه المحكمة عن هذا الدفع ؟ هل يلزمها البت فيه قبل مناقشة القضية في الجوهر، أم بإمكانها إرجاء البت لما بعد ذلك على شرط تعليل ضم الدفع الشكلي إلى الجوهر ؟

بالرجوع إلى الفقرة الثانية من المادة 323 ق.م.ج نجدها تنص على أنه “ يتعين على المحكمة البت في هذه الطلبات فورا، و لها بصفة استثنائية تأجيل النظر فيها بقرار معلل إلى حين البت في الجوهر ” ، فالصياغة المتبناة من طرف المشرع حسب بعض الفقه[29] تحتوي جميع الأبعاد التي تتطلبها المحاكمة العادلة من سير عادي للجلسات و احترام لحقوق الدفاع .

و بت المحكمة في الدفع بشكل مستقل أو ضمه للجوهر متوقف بشكل إجمالي على تكييفها للوقائع المعروضة أمامها ، إذ لها أن تقرر صحة الدفع  في إبان إثارته و ترتب الآثار القانونية على ذلك متى رأت أن الفعل الجرمي الثابت يستوجب التحقيق نظرا للعقوبة المرصودة له في القانون الجنائي ، أما إن هي احتاجت لمزيد من الوقت لبحث القضية للتأكد من الوصف الحقيقي المنطبق على الوقائع فيمكنها إرجاء البت في الدفع و ضمه لجوهر القضية على شرط التعليل .

و مع ذلك يبقى هذا الرأي الأخير محل نظر ، ذلك أن الدفع ينصب على قرار المتابعة ذاته الذي كان خاطئا منذ البداية ، و الذي رغم اعتباره الفعل موضوع المتابعة مشكل لجناية يلزم فيها التحقيق ، إلى أنه أغفل التماس التحقيق فيها ، و لا يتوقف على التكييف الذي تعطيه المحكمة حتى لو سلمت بأن الفعل المتابع عنه المتهم هو جنحة لا تستوجب التحقيق فيها، و بالتالي فالدفع بانعدام التحقيق هو من الدفوع الجوهرية للمسطرة التي يجوز إثارتها في كل مراحل الدعوى و لو لأول مرة أمام قضاء النقض ، كما يجوز لجميع المحاكم إثارتها تلقائيا .

كانت تلك ابرز الاشكالات القانونية التي يثيرها التكييف القانوني للأفعال الجرمية و أثره في بعض الاجراءات المسطرية كما هو الحال بالنسبة للحالة التي يكون فيها التحقيق الزاميا ، الأمر الذي يدعو الى تدخل المشرع لسد هذا الفراغ التشريعي ، و اعتماد حلول بديلة أحيانا من خلال السماح بتجاوز مؤسسة التحقيق الاعدادي خاصة و أن الواقع العملي يشهد اعتراف المتهم بالجريمة المنسوبة إليه أمام النيابة العامة و بالتالي لا يصبح اللجوء للتحقيق سوى شكلية لا طائلة منها مع ما يترتب عنها من اشكالات تتعلق بالاعتقال الاحتياطي وغيره .

الهوامش

[1] أخدا بالمفهوم الموسع لهذا القانون الذي يشمل القسمين العام و الخاص و المسطرة الجنائية ، انظر عبد الواحد العلمي: شرح القانون الجنائي المغربي القسم العام ، الطبعة السادسة 2015 ص 7

[2] حسين عبد علي عيسى: الأسس النظرية لتكييف الجرائم ، مجلة الرافدين للحقوق عدد 24 سنة 2005 ، ص 271

[3] نور الدين بوستة : اشكالية التكييف القانوني في الميدان الزجري، أعمال محكمة الاستئناف بالرباط  ، العدد 2 – 1997  ص 40

[4] حسين عبد علي عيسى: الأسس النظرية لتكييف الجرائم ، مجلة الرافدين للحقوق عدد 24 سنة 2005 ص 275-276

[5] ابراهيم بلمير: تقنيات التحقيق على ضوء قانون المسطرة الجنائية، سلسلة ندوات محكمة الاستئناف بالرباط العدد الثاني 2011 ص 83

[6] إدريس النوازلي: ضمانات المتهم أمام قضاء التحقيق، مجلة المحامي عدد 70 – دجنبر 2017 ص 176

[7] للمزيد من التفاصيل حول المسألة انظر ،عمر الابيض: قضاء التحقيق- رصد التجربة، مجلة القضاء و القانون عدد 155 ص 51 و مايليها.

[8] القانون رقم 22.00 المتعلق بالمسطرة الجنائية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.05.255 المؤرخ في 25 رجب 1423( 3 أكتوبر 2002) الجريدة الرسمية عدد 5078 بتاريخ 30 يناير 2003 ص 315

[9] رؤوف عبيد: المشكلات العملية الهامة في الاجراءات الجنائية، الجزء الأول-الكتاب1 ، دار الفكر العربي، الطبعة الثالثة 1980 ص 233

[10] أحمد فتحي سرور: الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، الكتاب الثاني، الطبعة العاشرة، 2016 ص 594

[11] حوار مع الأستاذ عبد الحكيم الحكماوي: نائب الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بالرباط ، يوم الخميس 7 ماي 2020  على الساعة 22:40 ليلا عبر تطبيق Skype

[12] للمزيد من الاطلاع حول هذه الاسباب انظر، ادريس المزدغي: أسباب النقض في المادة الجنائية، مجلة القضاء و القانون عدد 148 ص 37 و مايليها.

[13] عبد العلي العبودي: قضاء النقض و تقنياته، أشغال ندوة ” عمل المجلس الأعلى و التحولات الاقتصادية و الاجتماعية، مطبعة الامنية الرباط، 1999 ص 38

[14] منير فوناني: صناعة النقض المدني- وسيلة النقض صياغتها و تعامل محكمة النقض مع العريضة، مجلة القضاء و القانون، عدد 161 ص 65

[15] سعيد بيرام: سلطة قاضي التحقيق في التصريح بسقوط الدعوى العمومية، مجلة المحامي عدد 70 – دجنبر 2017 ص279

[16] أحمد فتحي سرور: الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، مطبعة جامعة القاهرة و الكتاب الجامعي، طبعة 1985 ص  164

[17] محمد أزراف: مدد تقادم الدعوى العمومية و اشكالاتها العملية، منشورات مجلة دفاتر قانونية- سلسلة دفاتر جنائية، العدد 3/ 2018 ص 43

[18] أحمد فتحي سرور: الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية، الكتاب الأول، دار النهضة العربية،  الطبعة العاشرة، 2016 ص 294

[19] عبد الواحد العلمي: : شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الأول، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء- الطبعة السادسة 2016 ، ص 162

[20] عادل محفوظي: ضمانات المتهم أثناء مرحلة التحقيق الاعدادي، مجلة المحامي عدد 70 – دجنبر 2017 ص 272

[21] يوسف وهابي: أزمة الدفوع الشكلية أمام القضاء الزجري، مجلة القصر العدد 3 – شتنبر 2002 ص 37

[22] دون ان نغفل كذلك الصياغة التشريعية و دورها في تعميق الظاهرة

[23] ادريس بلمحجوب: الدفوع الموضوعية و القانونية في قضايا الاعدام من خلال قرارات المجلس الأعلى، مجلة القضاء و القانون، العدد 157ص 30

[24] عبد السلام المريني: ملاحظات حول مستجدات المسطرة الجنائية بخصوص الدفوع الشكلية و المسائل الأولية ، مجلة الملف ، عدد 3 – أبريل 2004 ، ص 110

[25] عبد الواحد العلمي: : شروح في القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، الجزء الثاني، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء- الطبعة الخامسة 2017 ، ص 328

[26] كلثوم تواب: الدفوع الشكلية أمام القاضي الجنائي ، مجلة المرافعة ، العدد 16- أكتوبر 2005 ص 78

[27] عبد الحكيم الحكماوي : نظلم الجزاءات الاجرائية الجنائية بين التشريع و منهجية التفعيل ، مجلة القضاء و القانون عدد 164 ص 135

[28] انظر الفقرة الأخيرة من المادة 324 ق.م.ج

[29] مصطفى زروقي: هل يجوز للمحكمة رفع حالة الاعتقال على المتهم في إطار المادة 74 من قانون المسطرة الجنائية قبل مناقشة القضية في جوهرها، مجلة قضاء محكمة النقض العدد 83 ص 284